news-details

شعرية القصة القصيرة جدا في "عزف على نشاز " (2-2)| د. رياض كامل

الفانتازيا: فضح الواقع

لا يمكننا الحديث عن المفارقة في قصص جريس خوري القصيرة دون ربطها المباشر بالفانتازيا، هاتان سمتان بارزتان في كتاب "عزف على نشاز"، تعمل إحداهما في خدمة الأخرى حتى ليبدو أن المفارقة لا تنضج صورتها دون الفانتازيا والعكس صحيح. إننا على يقين أن الكاتب يدرك جيدا أن المفارقة والفانتازيا، معا، تسهمان في خلق عمل أدبي مركّب ومتنافر، يطيح بالمباشرة والخطابية.

لسنا بحاجة إلى التذكير بأن أي عمل فنيّ أو أدبيّ مبني على التخييل، ولكننا نذكِّر أيضا بأنّ نسبة التخييل تتفاوت بين مؤلَّف وآخر. فهناك أعمال عمدتها الرئيسية هي الفانتازيا والعجائبية حين تنسب الأحداث كلها إلى مخلوقات خارقة، أو إلى حيوانات "ناطقة"، على سبيل المثال، أو حين يشترك إنسان وحيوان في تحريك الأحداث وإقامة حوارات بينهما. يجد القارئ أن نسبة التخييل في القصص القصيرة جدا التي يتضمنها هذا الكتاب أكبر بكثير من نسبة الواقع، كما يرى أن للحيوان دورا مهما، وأن الحوارات، على اختلافها، يأخذ فيها الحمار دورا بارزا. وقد نسب إليه خوري أكثر من موقف وأكثر من دور، مستغلا ما يحمله هذا المخلوق من مكانة خاصة في حياة العربيّ، سيما وأنه يحمل أكثر من إشارة وأكثر من دلالة، فقد يشير إلى السذاجة أو الغباء، أو القدرة على الصبر وعلى تحمّل الظلم من البشر.

يعمد الكاتب إلى توظيف الخرافات سيرا على الموروث العربي القديم، كما يفعل غيره من كتاب القصة القصيرة جدا، لكن هذه الخرافات لا تشاكل الخرافات المعهودة التي قرأناها في كتب التراث، لأنه ينسج من الواقع واقعا عمدته خرافة لا جذور لها إلا فيما يراه في الواقع الذي يعيش فيه، بحيث تبدو الفانتازيا جزءا من عالم البشر، فمظاهر الفساد، على اختلافها، بلغت حدا لا يقوى العقل البشري السويّ على استيعابها وإدراكها.

إن دوافع توظيف الفانتازيا والغرائبية والعجائبية متعددة، ولا تتسع هذه المقالة للخوض في هذا الموضوع الشائك والشائق، ولا لفتح النقاش حول الفرق بين الفانتازيا والعجائبية والغرائبية، أو الإشارة إلى مدى التشابه بينها، وقد قمت بذلك أكثر من مرة. (انظر: كامل، "الكتابة بين الفعل ورد الفعل، أنف ليلى مراد أنموذجا")

يدرك جريس خوري، كما أدرك غيره من كتاب القصة القصيرة جدا، أن هذا الجنس الأدبي يستلزم التكثيف ويستدعي الإدهاش، فالرواية تتسع لتوظيف عدة محفّزات وتقنيّات ووسائل بفضل سعة عوالمها، أما القصة القصيرة جدا فعليها أن تلجأ إلى محفّزات صادمة ومدهشة تغني النص وتدهش القارئ من خلال مجاورة المنطق واللامنطق، نظرا لضيق حيّزها، لذلك فقد لجأ كتابها إلى الفانتازيا مدعومة بالمفارقة، "إن كل كتابة فنية هي محصلة عملية التخييل (fiction)، حتى وإن متحت مواضيعها من الواقع، ثم إن هناك تفاوتا كبيرا جدا بين عمل وآخر في درجة توظيف التخييل، وقد حقق منسوبا عاليا جدا في الرصيد الأدبي العربي القديم، في ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وحي بن يقظان، ورسالة الغفران، والتوابع والزوابع.... وقد لقيت العجائبية والغرائبية اهتماما لدى بعض المنظرين، وربما أشهرهم تزفيتان تودوروف في كتابه "مدخل إلى عالم العجائبية". (كامل، ص15)

إن الفانتازيا لدى خوري فيها من الحدّة والقسوة ما يخلق صورا منفّرة ومرعبة، وأحيانا مُحبطة: "قرر أن يحدث تغييرا في الماء الراكد الذي يحتسيه كلَّ جمود. أفرز من عباءته القرشية مطرقة جليديّة، ضرب بها وجه الصحراء. انشقّت من الوسط، قرأ في كثبانها دماء وجماجم، غزوات، غنائم، سبايا، طفولة تغتصب... رمحا في صدر كليب، سهاما في نحر الأدهم، ردة، حروبا، ذبحا، اغتصابا...

كسر مطرقته وغار في جليد يومه...

"إن النوم أنشط ما نقوم به حين نفقد وجوهنا" قال ونام!". (قصة "بلا وجوه"، ص22)

هذه هي "الواقعية الجديدة" التي يكتب فيها جريس خوري، وهو يكتب من خلالها ليؤلم ويوجع ويخز بإبَره جسدَ الفكر العربي لعله يستفيق من سباته، ويغرز بكلماته ضمير البشرية الميّت على أمل أن يصحو. إذ يبدو جليا للقارئ، منذ العنوان، أن خوري يسعى إلى فضح الواقع المهين بما فيه من مرارة، وكشف الفساد المستشري منذ سنين طويلة، ووجد أن المفارقة والفانتازيا معا أداتا ترميز وتكثيف لا تقوم القصة القصيرة جدا بدونهما، وقد أدرك جيدا هذه السمة (التكثيف) التي تتجلى بوضوح في القصة أعلاه حيث نرى أن التعابير والكلمات لها حمولات عدة تأخذ القارئ إلى عالم اليوم وعالم الأمس مما يغني النص ويثريه.

 

العنوان، المتن والخاتمة – الترابط والتضاد

للعنوان دور مهم جدا في عملية التلقّي أو الاستجابة، فهو يتصدّر غلاف الكتاب الذي يلتقي به القارئ مباشرة، قبل أن ينتقل إلى بقية عتبات النص. يتحاور معه حوارا صامتا، دون كلام، قبل قراءة محتويات الكتاب. ثم يتجدّد الحوار ويتكرر أثناء عملية القراءة، وفق تبدل النصوص ومضامينها، فيقف القارئ عند تماهي النص مع العنوان أو تناقضهما وتضادهما. ثم تأتي المرحلة الأخيرة مرحلة وضوح الرؤية بعد انتهاء المتلقي من عملية القراءة وإغلاق الصفحة الأخيرة من الكتاب (مرحلة الكلام)، ليرى إلى ما يجمع النص بهذا العنوان، وإلى دوافع اختياره دون سواه.

العزف كلمة مفتاحية لهذا الكتاب، تحمل معنى إيجابيا جذّابا في المفهوم المباشر، تُطرب الروح وتُحرّك المشاعر وتثير شجن المتلقي. وتوحي بالفرح والمسرّة. والعزف على آلة موسيقية يعني اللعبَ بها وإصدارَ لحن موسيقيّ. واللحن الموسيقي لغةٌ تُخاطِب الروحَ والوجدان وتثير الخيال وتستفزّه وتحثّه على التفكير وعلى الخلق والإبداع، لكن الكاتب يخالف "أفق التوقعات" المألوفة التي تجعل المتلقي ينتظر هذا "العزف" الموسيقي المطرب فإذا به "عزف على نشاز". وكي لا يذهب القارئ بعيدا في محاولاته التأويلية فإنّ الكاتب يدهمه مستهلّا كتابه بقصة تحمل عنوان "حاحا هيش هيش"، تماشيا مع العنوان وتأكيدا عليه.  

يقول عبدالله الغذامي (الغذامي ص58) إنّ آخر ما يقوم به المبدع بعد الانتهاء من عملية الكتابة هو البحث عن عنوان، ويرى أنّ هذه العملية في غاية الصعوبة، وتستغرق وقتا حتى يستقرّ المبدع عند قراره الأخير، وتستنفد طاقة فكرية من الروح والجسد كي يكون العنوان جذابا وموازيا للنص، كما يقول جيرار جينيت. إننا نكاد نجزم على أنّ جريس خوري قد اختار العنوان مسبّقا، أو لنقل إنّه قام بتحديد المسار قبل أن يخطّ أيّ حرف، وأنه قد أمسك بالفكرة، قبل عملية البدء بالكتابة، تقوده رؤية غاضبة ساخطة مما آلت إليه أحوال مجتمعه وشعبه، ومما يدور في كل أنحاء المعمورة، بعد أن تحوّلت إلى "قرية صغيرة" يلمّ المرء بأخبارها خلال دقائق معدودات.

العنوان مفاجئ وصادم لأنه مبني على المفارقة على مستوى تجاور الألفاظ فيه، وعلى مستوى التضاد بين مفهوم العزف وإيحاءاته ومضامين القصص كلها دون استثناء، بل إن القارئ يكاد لا يعثر على أية قطعة في الكتاب كلِّه تخلو من "نشاز" وفق فهم الكاتب. فما جاء به مغاير للمنطق ولما يجب أن تكون عليها الحياة. وبالتالي فإن نشاز جاءت لتستبدل أوتار الآلة الموسيقية التي من شأنها أن تبعث لحنا شجيّا، فإذا العزف موجع ومؤلم. هذا النشاز المقروء تحوّل من صامت إلى صائت يصل صدى عزفه إلى البعيد، وبات "فضيحة بجلاجل"، كما يقول إخوتنا المصريون، وصرخة عالية يسمعها البعيد كما القريب.

لا يقتصر "النشاز" على عنوان الكتاب فحسب، فقد وجدنا أن الكاتب يواجه القارئ، في قصصه القصيرة جدا، مواجهة مباشرة عبر عناوين صادمة وغير متوقَّعة، وهي من حيث المضامين تبعث برسائل متشابهة في حمولتها "السلبية". فقد يكون العنوان باللغة العامية، أو بلغة قريبة منها، أو مفاجئا في لفظه وإيحائه المباشر الصادم مثل: "حاحا هيش هيش"، "شقلبة" و"ديمقراطية الجحوش". وقد يكون عنوانا مراوغا مثل "ذيول"، و"بلا وجوه"، أو منحوتا من كلمتين مثل "حيوسان" الذي يجعل من الحيوان إنسانا ومن الإنسان حيوانا، بناء على مضمون هذه القصة بالذات، وعلى ما جاء في قصص أخرى من نفس المجموعة. وهكذا فعل في "المقامات" التي نعتبر مجرد التفكير بكتابتها عاملا مفاجئا ومدهشا في آن معا، مثل "المقامة الكندرية" و"المقامة القفوية"، كما سنبين لاحقا.

"عزف على نشاز" عنوان مراوغ يحقق مأربه في الإثارة وفي الحث على البحث عن دوافع اختياره، على صعيد التضاد المنبثق من الألفاظ، وعلى صعيد التضاد المعنوي عامة. هذا ما يوحي به قبل القراءة، أما بعدها فإن المتلقي سيقف على دوافع هذه التسمية وعلى الكم الهائل من النشاز في حياة البشر اليومية داخل بيئة الكاتب، دون استثناء ما يحدث على صعيد الصراعات الدولية. 

يلاحظ القارئ أن هناك علاقة قوية جدا بين العنوان الرئيس وعناوين القصص، فواتحها، متونها وخواتيمها، وأنها تعمل كلها معا على الإدهاش وإحداث زعزعة في أحاسيس القارئ ومشاعره، هذا الترابط يخدم المفارقة التي تقوم عليها القصة القصيرة جدا. وبالرغم من أن مثل هذه القصص لا تستغرق قراءتها إلا ثواني معدودات قد لا تتعدى الدقيقة إلا أن الربط الوثيق بين العنوان والخاتمة في توهجها مثير جدا، مربك ومحفّز على التفكير.

 

المقامة و"أفق التوقعات"

يعتبر بعض منظري التأويلية "أفق التوقعات" العامل الأهم في كل محاور التلقي والتأويل. فالقارئ حين يُقبِل على قراءة نص أدبي يبني توقعاته على ما يعرف عن أصول الجانر الأدبي الذي ينتمي إليه النص، سواء كان قصة قصيرة، رواية، مسرحية، شعرا، أو خاطرة وغيرَها. لهذا القارئ خبرة سابقة في التعامل مع النصوص الأدبية، ولديه معرفة ودراية بها، ويتحلى بقدرات في مجالات متعددة تساعده على المقارنة بين هذا المنتج الجديد وما سبقه من إنتاجات، وقياس مدى تشابهه او اختلافه معها، والوقوف عند اللغة الشاعرية التي وظّفها الأديب في مستوياتها المختلفة والهدف من ذلك.

يمكننا القول إن المفاجأة الكبرى في "عزف على نشاز" هي كتابة المقامة، الجنس الأدبي الأكثر كلاسيكية وقدما من بين الأجناس الأدبية الأخرى في هذا الكتاب. تعود بنا المقامات قرونا إلى الوراء، وبالذات إلى بديع الزمان الهمذاني (توفي سنة 398 ه، 1008 م) وأبي محمد القاسم الحريري (توفي سنة 516 ه، 1122 م). لهذا الجنس الأدبي قواعد وأصول في الشكل والمبنى والمضمون، ترتبط بفكر المتلقي بماضٍ بعيد، فكيف بنى خوري مقاماته؟ ما قديمها وما جديدها؟

يجد القارئ الكثير من المشترك بين مقامات خوري وما سبقها، بالذات في الشكل، وفي اعتماد الكاتب على المحسنات اللفظية والمعنوية، وفي بناء مقامة تتوفر فيها العناصر المألوفة؛ الحبكة، المكان، الزمان والراوي الذي يسرد الأحداث منذ البداية حتى النهاية بأسلوب شائق جدا، ولكنها لا تعتمد على "الكدية" التي ألفناها في جنس المقامة، كما أن المواضيع المطروحة تتوافق مع الحاضر وتتماشى مع همومه ومشاغله. وبالتالي فإن اللغة حديثة وقريبة من قارئ اليوم، وتشهد على قدرة كاتبها على التنويع والتلوين والخوض في مواضيع متعددة بهدف النقد الاجتماعي والسياسي، وتسلية القارئ للترويح عن النفس.

كتب جريس خوري أربع مقامات، فكان مجرد خوضه فيها كسرا للمألوف وخطوة غير متوقعة من شاعر وباحث وأكاديمي، فضلا عن اختفاء هذا الجنس الأدبي عن ساحة الأدب الحديث والمعاصر. وقد اتبع فيها، منذ العنوان، (الكندرية، القفوية) أسلوب التهكم والتندّر والسخرية. تشهد هذه المقامات على سعة معلوماته، إذ يغنيها بالتناص والدلالات والإيحاءات، ويأخذ القارئ إلى الكتب المقدسة؛ إلى القرآن الكريم "... وتتعس الإحساسْ، وتستحضر الوسواس الخناسْ" (ص68) وإلى كتاب "العهد الجديد": إلهي نجّني من العذاب!"، (ص62) إشارة إلى استنجاد السيد المسيح أثناء صلبه وقد استعان بالله صارخا "إلهي إلهي لما شبقتني (تركتني)، وفيه تناصات مع الأدب العربي الكلاسيكي والحديث.

وهو يعمل على الدمج بين أكثر من مستوى لغوي، فتتجاور اللغة الفصيحة والمحكية لإضفاء جو من التندّر والفكاهة والتهكّم: "ورمى الكندرة على المقاعد من الخلفْ (خلف السيارة)، ثم مسح بأصبعه الأنفْ، وطرق الباب بقوّة واحتقانْ، فرفعت كفّي ورأسي للحنّانْ: "كنّا بكندره خربانه وجرابْ، والآن الرجل قد أتلف البابْ! إلهي نجّني من العذاب!" وقبل أن يقطع الشارع ويرحلْ، قلت له: استنى شويّ، تمهّلْ؛ بحبشت في جراب السياره، فوجدت خضراء ازدانت نضاره! عشرين شاقلا أهون وأيسرْ، أخذها جافياً ثم تيسّر..." (ص62)

في الفقرة أعلاه تقاطع مع ما ألفناه في جنس المقامة في أكثر من جانب، فهناك المحسنات اللفظية والمعنوية، وهناك الحوار بين "الراوي" و"البطل" الذي يسفر عن تحقيق البطل مأربه في كسب بعض المال، وإن كانت حال "الكندرجي" مغايرة لحال "المكدّي"، فالأول لا يرغب بأكثر من حقّه لكنه متعجّل سريع الغضب، والثاني يعمد إلى فصاحة اللسان في تبرير حيلته فينال ما يرغب بفضل خفة ظله وطلاقة لسانه. 

تتعدد المستويات اللغوية لدى خوري لتُحقّق مقامتُه مبتغاها في توصيف الحال، فيقوم أحيانا بتوظيف بعض الألفاظ التي دخلت كلّ بيت بفعل التكنولوجيا ووسائله: "معَكَ حقٌّ هاي شباب التشاتْ، والفيسبوك والتويتر والآيقوناتْ، بس محسوبك عبيتي الكمبيوتر ما بفوتْ! سيبك يا زلمه من خراب البِيوتْ...". (ص70) وهو يعمل على تحوير الأمثلة العامية وتفصيحها "وقد علمت أن الجنة بغير ناس لا تداس" (ص68)، و"على المجانين رزق الشطار". (ص،69) وعلى تفصيح العامية ممزوجة باللغة المحكية كي يكتمل جو الفكاهة والدعابة والمرح: "تفضّل حبيبنا شرّفتَ الدارْ، وهلّتْ علينا الأنوارْ، وين هالغيبة يا بن الحلال؟!". (ص، 69)

تتقاطع بعض الجمل والتعابير في مقامات خوري بالنثر العربي القديم، ما يعيدنا، على سبيل المثال إلى خطبة قس بن ساعدة الإيادي وقوله المأثور: "من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت"، لتصبح عند خوري "وجئت أتسلّى بذكرى ما قدْ فاتْ، وأتحلّى بذكر ما هو آتْ..". (ص،70)

كتب جريس خوري وفق هواه، وكأني به يعلن بأعلى الصوت أنا لا أكتب كي أجنّد القراء، ولا تعنيني تلك القوانين المعلّبة التي تملي علينا قيودَها. وهو العالم أن هذا النوع الأدبي له أصوله وإشكالياته التي قد تقف حائلا دون قراء اليوم. لكن ذلك لم يثنه عن عزمه في خوض غمار هذه المغامرة محافظا على الشكل المألوف يسعفه في ذلك تجربته الشعرية ومعجمه الأدبي الغني وتوظيفه للتهكم والسخرية والمفارقات بشتى صورها وأشكالها.

لا يخلو مثل هذا العمل من الحشو للحفاظ على التجنيس اللفظي والنبرة الموسيقية، ولكن نسبته قليلة جدا لا يهتدي إليه إلا من يبذل جهدا كبيرا في التمحيص والدراسة الدقيقة، فسلاسة اللغة وغناها وعنصر التشويق وأسلوب التندّر كلها معا تأخذ القارئ باتجاه لذة النص والتمتع به. أما "المسافة الجمالية" التي تعني وفق ما يراه ياوس "المسافة الفاصلة بين الانتظار الموجود سلفا والعمل الجديد" (أحمد بو حسن، ص30) والتي عني به كثيرون من بعده فهي تتجلّى في قدرة القارئ وثقافته، فتتفاوت ما بين "القارئ العادي"، و"القارئ العارف" و"القارئ النموذجي". إننا نرى أنّ مجرد الخوض في التجربة هو بحد ذاته كسر لأفق التوقعات، أما المواضيع فهي خفيفة الظلّ قادرة على مخاطبة القراء على اختلاف مستوياتهم وأذواقهم. فالترميز في المقامات الأربع شفاف وقريب من إدراك كل المتلقين، لكن القارئ العارف سيجد فيها من معالم الجمال ما يخفى على العادي، وبالتالي فإن القارئ النموذجي قادر أيضا على أن يشير إلى مواقع التقليد والتجديد وإلى تحليل المستويات اللغوية. 

لا يلجأ جريس خوري إلى هذا الجنس الأدبي من أجل التندر والفكاهة فقط، بل إنه يوظف السخرية في سبيل نقد الفكر الاجتماعي والسياسي والأدبي وما وصل إليه من سفول وانحطاط.

 

خلاصة

تحمل القصة القصيرة جدا في كتاب "عزف على نشاز" رسالة غاضبة ساخطة على الواقع المحلي والعالمي، ينطلق فيها الكاتب من البيئة القريبة ومن الإطار الضيق ليصل إلى أطر أكبر وأوسع. يعاين، يراقب ويصوب سهامه في أكثر من اتجاه اجتماعي وسياسي. إنها كتابة تحريضية بامتياز، تحمل خلاصة بصيرة الكاتب جريس خوري في رؤية الحياة، فإذا بها صورة قاتمة؛ قتل، احتلال، انتهاك حقوق، غدر، خيانة، كذب، تزييف، رياء، حياة بشعة وظلّام يبثون الشر والفساد.

يعالج الكاتب هذه القضايا الحارقة والمقلقة عبر كلام قليل مكثّف ومدعّم بالفانتازيا والعجائبية والغرائبية، تسهم كلها في الترميز، وتفتح باب التأويل على أكثر من رؤية وأكثر من رأي. من هذه القصص ما يشبه الومضة التي تعتمد على سرد مختزل إلى بضع كلمات أو بضعة أسطر، ومنها ما يتسع لشخصية أو أكثر، وفيها ما يتسع لبعض الحوار على أشكاله، معتمدا التلميح.

لا يكتب جريس خوري للقارئ العادي، بقدر ما يكتب للقارئ المتمرس الذي يقوم بالتأويل حتى يكون حلقة الوصل بين النص والقارئ، ولا تتكشّف قصصه إلا بعد كد وتعب، مع تفاوت في نسبة التظليل والتضليل والترميز. تتحقق لذة القارئ بعد التعمق في النص واكتشاف جمالياته، فيعثرُ على رصيد غنيّ من الثقافة العربية، القديم منها والحديث، ومن الكتب المقدسة، ومن الثقافة العالمية. تتوهج هذه النصوص حين تُطعّم بالمفارقات على اختلاف صورها، تخدمها لغة غنية متنوعة بأشكالها ومستويات تركيبها. وفيها من الجاحظ بعضُ سخريته، ومن ألف ليلة وليلة بعض خيالها، ومن كليلة ودمنة بعض ملامح أبطالها، ومن العجائبية والغرائبية العربية الكلاسيكية رموزها وإشاراتها.

لم يلجأ الكاتب في قصصه القصيرة إلى تصوير الواقع كما هو على حقيقته، ولم يستلهم موادّ إبداعه من حدث معين، بل ذهب نحو الشمولية يأخذ من الواقع الفكرة لا الصورة العينية، ويأخذ من الأحداث ما تبثه من أحاسيس لا ما نراه رؤيا العين، فالرائحة نشمها ولا نراها. 

يتجرأ جريس خوري على خوض مغامرة مفاجئة حين كتب ونشر في هذا الكتاب أربع مقامات. فهذا النوع الأدبي قد أفل نجمه منذ قرون طويلة، ولم يحفظ لنا التاريخ سوى بضعة أسماء تجرأت على ممارسته. للمقامة أصول معقدة تجعل مهمة خوض هذه التجربة شبه مستحيلة في أيامنا اليوم، يحتاج كاتبها إلى مهارات متعددة لا يقدر عليها إلا من يجمعون بين الثراء اللغوي والقدرة على التحكم بالسرد المشوّق الثريّ المطعّم بالبلاغة والمحسّنات اللفظية والمعنوية، يدرك خوري أنه يخوض غمار تجربة صعبة، ليس سهلا على متلقي اليوم أن يقاربها أو يقرأها أو يتمتع بها، فعمد إلى لغة حديثة ومضامين حديثة قادرة على مخاطبة المتلقين اليوم.

يتحدث أحد المنظرين عن الشرارة التي تتولد بين القارئ والنص، ويعتبر أن هذه الشرارة هي المحفز الأهم في عملية القراءة وإلا انقطع التواصل بينهما. ورغم أني، كقارئ، أرى نفسي بعيدا عن بعض الأفكار التي يطرحها الأديب جريس خوري، لكني، أصاب بالذهول من طريقة عرضه للفكرة، ومن تلخيص رؤيته العميقة في بضع كلمات، ومن جمع أرذال البشرية في كف يد واحدة، وفي قصة من بضع كلمات.

 

المراجع

إلياس، جاسم خلف. شعرية القصة القصيرة جدا. دمشق: دار نينوى، 2010.

إمبرت، إنريكي أندرسون. القصة القصيرة- النظرية والتقنية. ترجمة علي إبراهيم علي منوفي. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000. 

أومبرتو، إيكو. التأويل بين السميائيات والتفكيكية. ترجمة سعيد بنكراد. ط2. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004. 

أومبرتو، إيكو. القارئ في الحكاية. ترجمة أنطوان أبو زيد. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1996.

بارت، رولان. لذة النص. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1992.

بوث، وين. بلاغة الفن القصصي. ترجمة أحمد خليل عردات، وعليّ بن أحمد الغامدي. الرياض: جامعة الملك سعود، 1994.

بو حسن، أحمد. "نظرية التلقي والنقد الأدبي العربي الجديد". كتاب نظرية التلقي- إشكالات وتطبيقات. مجموعة من الباحثين. الرباط: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1993.

حطيني، يوسف. دراسات في القصة القصيرة جدا. الرباط: مطابع الرباط،2014.

سليمان، خالد. المفارقة والأدب- دراسات في النظرية والتطيق. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1999.

طه، إبراهيم. "الأقصوصة القصيرة في الأدب العربي الحديث- مقاربة تاريخية". الكرمل، ع 23-24، 2002-2003، ص167-192.

الغذامي، عبدالله. ثقافة الأسئلة. ط2. الكويت: دار سعاد الصباح، 1993.

كامل، رياض. "الكتابة بين الفعل ورد الفعل، "أنف ليلى مراد" نموذجا". شذى الكرمل، ع4، كانون الأول 2022.

المناصرة، حسين. القصة القصيرة جدا- رؤى وجماليات. إربد: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، 2015.

ميويك، د. سي. "المفارقة". موسوعة المصطلح النقدي. ترجمة عد الواحد لؤلؤة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب