news-details

صفحات من سيرة ذاتية، نصراوي من حارة العين (2): أبي وأمي وعين العذراء |  د. هاني صباغ

كانت أمي تحبني وتعتز بي دائما وتقول: "حبيبي يا راجي يا ابني. بحبء أءتر شي في الدنيا بحبّء أءتر من حالي. ما فش أحسن مِنَّء ولا أشطر مِنَّء.  (كانت أمي على عادة بعض النساء النصراويات تلفظ القاف والكاف أيضًا همزة لكني لم ألتقط منها تلك اللهجة بل كنت أتكلم بالقاف النصراوية كباقي الرجال).   

* كنت متعلقًا بأبي بشدة ولم أدرِ سر تعلقي به

  كانت الدكان على قرنة سوق الكاثوليك، بابها يفتح على سوق الخواجات وحائطها الخلفي المقابل للباب ملاصق لحائط  كنيسة الكاثوليك الملكيين، وله بينهما حائط فيه شباك غربي طويل يطل على شارع سوق الكاثوليك، عالٍ كالباب تصل عتبته إلى أرض الشارع المرصوف بالحجر الصوان المالس كمعظم طرق البلد وأزقتها ويتوسطه مجرىً بعرض ذراع وعمق ثمانية قراريط تقريبًا لماء المطر وغيره. كان في دكان والدي ماكنة خياطة كبيرة من ماركة سنجر، كانت الوحيدة في البلد، لخياطة كل أنواع الجلود. وأظنها  كانت أحد أسباب المستوى الرفيع من الأحذية التي صنعها أبي بالإضافة إلى المهارة والذوق الرفيع.                          

نزلت العتبة إلى الشارع انعطفت يمينًا ودرت يمنة مرة أخرى بعد خطوات قليلة حول قرنة الدكان. مررت من أمام الشباك الذي تصل عتبته إلى الأرض. اختلست نظرة إلى داخل الدكان فوقعت عيناي على والدي يسترق نظرة إلى الخارج ليكسب لمحة أخرى مني. كنت متعلقًا به بشدة ولم أدرِ سر تعلقي به. ربما كانت محبتي له تعود لحسن معاملته لأمي أو لوداعته ومحبته لعائلته ووفائه لأصدقائه وجيرانه. كانت علاقته مع جيرانه دار قاسم أبو أحمد على أحسن ما تكون العلاقة بين الجيران بل بين الإخوة.                                        

 تمهلت في السير ورفعت يدي مودعًا فهز رأسه إلى أعلى وإلى أسفل مودِّعًا هو الآخر وعلى فمه ابتسامة خفيفة وتمتم بضع كلمات لم أسمعها بالطبع لكن شعرت وكأنه كان يدعو لي. سرت ببطء أفكر. ماذا يخبئ لي القدر؟                                                                   

 مررت بسوق الكاثوليك وسوق الخضار والأسواق الأخرى المتصلة بها حتى وصلت إلى ساحة دير المطران للروم الأرثوذكس وكنيسة القلاية على اسم مار جريس. أسرعت الخطى لئلا يراني عمي الياس الذي كان بيته في الزاوية الجنوبية الغربية من الحارة، والوقت ظهر ومن العيب ألا ألبّي دعوته لتناول طعام الغداء معه إذ كان ذلك من عادته كلما رآني. كنت شديد الحياء لا سيما من ابنتيه الصبيتين. 

**

كان عمي الياس أبو فضّول، ميسور الحال يمتلك الكثير من الحلال والخيول العربية الأصيلة يتاجر بها ويجني منها أرباحًا تكفيه ليعيش عيشة رضية لولا المشاكل الصحية التي كانت تعاني منها ابنتاه. الحمد للـه. مررت بسلام دون أن يراني، أسرعت الخطى، سرت بمحاذاة المقبرة الإسلامية التي كانت على يميني قبالة البوابة الرئيسية الشرقية لمطرانخانة الروم الأرثوذكس التي تفضي إلى درج طويل صاعد.. في أعلاه ساحة ذات أشجار باسقة وإلى مجمّع دير المطران مسكنه ومضافته وقلايته وكنيسة مار جريس.

                                              

•كانت أمي تحب ماء عين العذراء لأن ماءها مقدس

  يقع بيتنا إلى الشرق من الشارع الرئيسي الترابي الذي كانت تمر منه العربات والدوابّ المحملة بالبضائع المختلفة في طريقها إلى السوق. وما هي الا دقيقتان أو أقل حتى وصلت بوابة البيت الخشبية السميكة المصنوعة من الخشب القطراني والمغطاة من الجهة التي تلي الشارع بصفائح معدنية. وحين اقتربت لاحظت أن باب البير الذي يلي بوابة البيت على الشارع جنوبًا مفتوح. ذهبت واغلقته خوفًا من أن يسقط فيه طفل أو حيوان أو شيء آخر.  كنا نستقي الماء من هذه البئر لأغراض مختلفة. كانت أمي ترفض أن تشرب منها أو تطبخ بمائها، كانت تحب ماء عين العذراء لأن ماءها مقدس كما كانت تعتقد فلا يمكن أن يصاب أحد منه بضرر لقداسته.

    **  

 كانت البئر كبيرة مبنية تحت العقد الكبير المربع إلى اليمين من البوابة. كان سطح هذا العقد الكبير ينظف كل عام قبل موسم المطر وتُحَوَّلُ مزاريبه عن البئر قبل نزول المطر الأول ومن  ثم تحول إلى داخل البئر بعد نزوله. أما البئر نفسها فكانوا ينظفونها كل ثلاثة او أربعة أعوام بالنزول إلى داخلها وإخراج ما تَرَسَّب في قعرها. كان ذلك العمل يحتوي على مخاطر التسمم بغاز الكربون الذي يتجمع في قعرها. فكان من ينزل يربط من تحت إبطيه بحبل متين يهزه إذا ما شعر بدوار فيخرجونه في الحال.   

                **

كان في كل بيت ومبنى في البلد في ذلك العهد بئر وكان من أكبرها بئر مطرانخانة طائفة الروم في حارة دار عمي الياس، حارة دير المطران، وكانت تسمى سيحًا لكبرها وعمقها. كانت هذه الآبار تملأ من مياه المطر فتكفي لموسمين أو ثلاثة لدرء خطر انحباس المطر. وكان الأولاد في سنوات القحط والجفاف يطوفون الشوارع في ساعات العصر والمغرب يغيّثون (ينشدون للغيث أي المطر):                                                                                                                                 

شتّي يا دنيا وزيدي

بيتنا حديدي

عمّي عبد الـله

كسر الجرة

ضربو سيدو

 ونيّمو برّا                     و

يللا الغيث غيثينا

خبزة وزيت طعمينا 

طعمينا حسن لقرع 

طول الليل وهو يزرع                             

يزرع قمحنا القصري                                     

        تيمللي  خوابينا 

والقمح القصري هو المزروع في أرض قصر المطران حبته كبيرة وخبزه مميز لذيذ الطعم، كانت تزرعه عائلة من حمولة أبو أحمد الملقبة بدار الواوي عن طريق ضمان الأرض وقد استمرت في ذلك الضمان مدة طويلة وإلى وقت قريب.

 

•وبيدس على ما يقال كلمة يونانية تعني القوي

ما زلت اذكر ما كان الناس يتندرون به من خبر الأستاذ خليل بن ابراهيم النمر الذي توفي والده وهو صغير. يروون أنه في صغره كان يلعب ذات يوم في الحارة فرأى دجاجة تخرج من بيت أحد أساتذته عاقبه لغير ما ذنب اقترفه وكان مشهورًا بقسوته على الشياطين الصغار. كان الأستاذ جارًا لهم. رآها فرماها بحجر كبير من شدة غيظه أصابها وكسر ساقها انتقامًا من المعلم مما اضطر زوجة المعلم إلى ذبحها حالًا رغمًا عنها فقد كانت دجاجة بيّاضة.                               **    

اشتكاه المعلم إلى مدير المدرسة الذي أمر بإنزاله في سيح (بئر كبيرة في اللغة الدارجة) دير المطران  العميق المعتم عقابًا له وأن يُطرد من بيته فلا يبقى فيه إذ لم يكن  في البيت رجل يقوم على تربيته. ونما الخبر إلى عمي الياس الصباغ فتشفّع له بسبب صلة القرابة بين عائلتي النمر والصباغ وتبرع باحتضانه وتربيته، فانتقل ليعيش في كنف تلك العائلة بجوار بيت بشارة معمر حتى تخرّج من السمينار الروسي معلم باسم خليل بيدس وهو لقب لعمّة والده لزم العائلة. وبيدس على ما يقال كلمة يونانية تعني القوي، لقبت بها تلك العمّة لقوتها التي كانت تضاهي قوة الرجال.             

   

•كم أحببت تلك المجدّرة النصراوية التي كانت أمي تطبخها. 

تفضي خوخة بوابة دارنا إلى ردهة سماوية واسعة إلى يسارها شمالًا عقدان صغيران وإلى يمينها عقد كبير مربّع هو مجلس والدي ومضافة للأقرباء والأصدقاء والزوار. عند نهاية تلك الردهة قنطرة حجرية سطحها مستوٍ تصل ما بين سطحي العقد الكبير والعقد الصغير الشرقي، أسفلها عشر درجات، عرض كل منها أربع أذرع أو يزيد، تفضي إلى المستوى السفلي من البيت. وتحت مقدمة الردهة على الجانب الشمالي إلى يسار الدرج النازل عَقْدَةٌ صغيرة فيها موقد صغير يسخن فيه الماء للغسيل وللاستحمام في الغرفة المجاورة وهي أولى ثلاث غرف ملاصقة لبيت عمي سليمان من الجهة الشمالية، مسقوفة بالخشب القطراني المعروف بصلابته وتحمله لتقلبات الطقس والمناخ، مغطى بالبربريقا وهي عبارة عن تراب أبيض شديد التماسك مرصوص بالمطبات لا تنفذ منه مياه المطر. إلى يمين الدرج وأمامه حتى حدود حارة الأقباط شرقًا ودار أسعد العودة جنوبًا ودار عمي سليمان شمالًا حاكورة فيها أشجار مثمرة كالليمون الحلو والأكدنيا والليمون الحامض واليوسف أفندي، وهو نوع من الحمضيات يشبه المندلينا ولكن ثماره أكبر وألذّ طعمًا، وكرمة وشجرة عُنّاب وشجرتا تين، خُرتمانيّة حلوة المذاق كالعسل وأخرى سوداء ذات ثمار لذيذة المذاق ذات نكهة خاصة بالإضافة إلى أحواض النعناع والميرمية والبابونج والبقدونس والبندورة والبصل والخيار ومختلف أنواع الورود والأزهار تزرعها أمي في مواسمها. نزلت الدرج على مهل. كانت أمي تطبخ في الغرفة الوسطى. تنشقت رائحة الطعام الشهي، كم أحببت تلك المجدّرة النصراوية التي كانت تطبخها. 

 

•كان المُبَيِّضون يطوفون البيوت ينادون "مبيِّض"

 لمّا كانت أمي وحيدة أبويها ورثت عنهما كل أواني الطبخ النحاسية المنقوش على جدارها الخارجي اسم والدها سعيد الموسى. كان الناس في ذلك الوقت وإلى منتصف القرن العشرين تقريبًا ينقشون أسماءهم على أوانيهم النحاسية ليعرف مالكها عندما يأخذها المبيّض لتبييضها أي طلائها بالقصدير لمنع التسمم بالنحاس عندما "يجنزر" يتأكسد ويصبح أخضر اللون. كان المُبَيِّضون يطوفون البيوت ينادون "مبيِّض" فيجمعون الأواني النحاسية في أكياس كبيرة من الخيش ويأخذونها إلى دكاكينهم أو إلى المُغُر والكهوف حيث يقومون بتبييضها أي طلائها بالقصدير.                                                    

نزلت الدرج ببطء أفكر فيم سأقول لها فهي حتمًا ستسألني. كانت تحبني وتعتز بي دائما وتقول: "حبيبي يا راجي يا ابني. بحبء أءتر شي في الدنيا بحبّء أءتر من حالي. ما فش أحسن مِنَّء ولا أشطر مِنَّء.  (كانت أمي على عادة بعض النساء النصراويات تلفظ القاف والكاف أيضًا همزة لكني لم ألتقط منها تلك اللهجة بل كنت أتكلم بالقاف النصراوية كباقي الرجال).   

لم تكن أمي تخفي حبها لي على أحد مع أنه كان عيب على النساء في ذلك الزمن أن يتلفظن بكلمة حب أو مشتقاتها.

دخلت الغرفة أو الأوضة الوسطانية كما نسميها باللغة الدارجة. كانت تجلس على دوشك، وهو فرشة رقيقة محشوة بالقطن أو الصوف توضع على الأرض فوق حصير من القش السميك أو من  القَصَل، جلست وساقاها مصلّبتان تحتها وظهرها منحنٍ إلى الأمام بعيدًا عن المسند المصنوع من القش الناعم خلفها مستندًا إلى الحائط.  كانت تعجن. دخلت ورميتُ نفسي بكل ثقلي على ظهرها وكتفيها:                                

- مرحبا يمّا. قلت بصوت خافت.                                  

رفعت رأسها ونظرت إليّ نظرة تفحُّص واستطلاع.             

- مرحبتين يا نور العين. شو في؟ مالَء يما؟ ليش مش على بعضء؟  

- ولا إشي يمّا.                                                  

  فقالت مبتسمة:

 - وَلَء (ولك) بتءزِّب عليّ. مْبَلى في إشي، مبيّن على وجهَء. ماتؤنش ساءِط بالامتحان !

واستدركت قائلة:                           

_ لأ لأ. مش ممئِن، إنت خلّصت المبتديان وءُنت الأول في الصف. ءُلّي شو مالَء. ما تشغلش بالي، الله يرضى عليء.     

 _ ما يكون لك فكر يمّا. الِامتحان كان سهل كتير والمعلم اسكندر كُزما هنّاني على جواباتي الصحيحة لكل الأسئلة الشفهية والكتابية. ولما خلصت الامتحان هز رأسه وسألني:                

 - وأيش بيكون لك الأستاذ خليل بيدس؟                           

 قلت له: ابن عمي إبراهيم، بس هو أكبر مني بأكثر من عشر سنين.

- طيب ومالء ليش زعلان؟                                            

   - أبوي بقلِّك لما بروِّح.                                       

سكتت. كانت ثقتها بأبي كبيرة. كانت تحبه وتحترمه وتعمل على نيل رضاه دائمًا وعلى ألا تزعله إذ كان عطوفًا يحبها ويحترمها.

 

•كانت أمي  تلبس الرداء النصراوي الأبيض وفوقه الرداء المخطط المسمى "ردان"

كان أخي الطفل ينام في الغرفة الشرقية المجاورة، بدأ يبكي. كانت الساعة بعد الزوال بقليل أي انها جاوزت السادسة ظهرًا.

- لا بد واصف جوعان، قالت ونهضت واقفة دون أن تمسك بشيء أو تستند على شيء. كانت أمي قصيرة القامة نحيفة القوام خفيفة الحركة تلبس الرداء النصراوي الأبيض وفوقه الرداء المخطط المسمى "ردان" يمسكه حزام عريض من القماش على وسطها وتضع على رأسها عصبة عريضة من القماش المخطط الداكن اللون.  كانت بيضاء البشرة عسلية العينين جميلة المحيا لا ترتسم البسمة على وجهها بحضرة الرجال إلا عندما تراني. نهضت على قدميها دون أن تستند على شيء ومن فتحة صغيرة بين الغرفتين دلفت إلى الغرفة الشرقية المجاورة لتعتني بالصغير الباكي. نادتني:                     

- راجي يمّا، ما فش عنّا ميّ للشرب ممئن توخد العسلية وتروح تعبيها من العين؟ ءمان شوي بيجي ابوء تيتغدى وتتغدى معاه. روح عبيها عبين ما ييجي وبِئون الطبيخ استوى. 

_ حاضر يمّا بس بدي أَجاري.

 فَهِمَت قصدي.

_ روح تءلّع. شفت أبوء مرة ببوسني. يا عيب الشوم.

هاجمتها وطبعت على خدها قبلة حارة وخرجت.

**

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب