عن جوليان أسانج، وقائع قضيّة

• أرام محاميد
• 30/08/2019
• نسخ الرابط

 "حالة اسانج هي حالة مماثلة لسجن أنطونيو غرامشي في عهد حکومة موسولیني الفاشیة" (نعوم تشومسكي)

 جوليان باول هوكنز من مواليد 3 تموز 1971، صحفي ومبرمج استرالي الجنسية، ابن لفنانة اسمها كريستين ان وأب ناشط في مناهضة الحرب يدعى هوكنز جون شيبتون. ولكن باول هوكنز لم يتسنّ له أن يعيش مع والده البيولوجي لأنه انفصل عن امه حتى قبل ولادته. ولاحقا تزوجت والدته لممثل ومدير مسرح صغير يدعى ريتشارد بريت اسانج.

كان الشاب جوليان شغوفا بالحاسوب وماهرا في القرصنة الالكترونية منذ صغرة، وتحديدا عام 1987 وهو لم يتجاز الـ16 ربيعا من عمره بدأ بالقرصنة تحت عنوان mendax وبحلول عام 1994 اتهم بـ33 تهمة، اعترف بـ25 منها لاحقا، أهمها قرصنة وكالة ناسا ووزارة الاتصالات الخارجية الأمريكية وشركات ومؤسسات عديدة بارزة اخرى.

 في عام 2006 توجه نشاطه في القرصنة بافتتاح موقع ويكيليكس WikiLeaks، الهادف لنشر تسريبات سرية على مستوى دولي وتبادل معلومات وأدار المواقع من السويد نظرا لقوانين الحماية هناك. وبرر أسانج نشره لفضائح دولية عديدة بجملة شهيرة له: "تحافظ اجهزة المخابرات على سرية الأمور لأنها غالبا ما تنتهك القوانين".

كتب عن أسانج العديد من المقالات، وأطلق تضامنا معه العديد من الحملات عبر العالم وصرخ الكثيرون بعد حادثة أسانج أن حرية التعبير تلفظ أنفاسها الأخيرة، سأسرد في الأسطر القادمة أهم أسباب اعتقال جوليان اسانج وردود الفعل حولها.

 

موقع ويكيليكس إبّان حرب أفغانستان

نشط الموقع الذي أسسه اسانج إبّان حرب أفغانستان، وعمل على فضح الأهداف الدنيئة للحرب الأمريكية. وعلى "العداء بعد صداقة" بين أمريكا وطالبان، وتدعيم العدو لتبرير القمع، وتجاوز القوانين التي تقضي بعدم الاعدام أو الاعتقال بدون محاكمة. 

من ابرز تسريبات حرب افغانستان ثلاثة من بين تسعين ألف تسريب: 

1. كيف تطارد وحدة "black" قادة طالبان وتقتلهم أو تعتقلهم بدون محاكمة: 

هذا التسريب عبارة عن فضح وحدة سرية أسستها المخابرات الأمريكية، وظيفتها قتل أو اختطاف قادة حركة طالبان بدون الالتزام بأي اجراء قانوني.

2. تستر الولايات المتحدة على حصول طالبان على أسلحة فتاكة: يفيد التسريب أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بوصول أسلحة فتاكة لطالبان، ولكنها تسترت على الموضوع.

3.  كيف تستخدم قوات التحالف طائرات ريبر القاتلة لمطاردة وقتل أهداف طالبان عن طريق التحكم عن بعد من قاعدة في ولاية نيفادا: يفيد التسريب أن الطائرات تُحرك عن بعد وبالتحديد من قاعدة عسكرية في ولاية فلوريدا. (في احد تعليقات البيت الأبيض، أبدى البيت الأبيض امتعاضه من هذه التسريبات، لأنها تشكل خطرًا على حياة وكلاء الولايات المتحدة).

 

ويكيليكس وحرب العراق

 تمثل تسريبات ويكليس أكبر تسريب عسكري في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، قام موقع ويكيليكس بتسريب ما يزيد عن 400 الف تقرير، ولعل أبرز تسريب هو الفيديو المشهور لمروحية أمريكية وهي تقتل المواطنين العراقيين العزل وكأنهم قطيع من الغنم. على تسريبات موقع ويكيليكس نشرت صحيفة (Thedailybeast) مقالا بعنوان:

(ويكلكس وحرب  العراق 8 أسرار صادمة - WikiLeaks Iraq War Files: 8 Most Shocking Secrets).

ما هي هذه الأسرار "الصادمة"؟ 

1. استهداف المدنيين: تبين الوثائق المنشورة أن من بين 109081 قتلوا بين السنوات 2004 الى 2009، قتل 66081 مدنيا بنيران التحالف.

2. حالات تعذيب لم يتم الابلاغ عنها: وهي حالات قامت فيها الشرطة العراقية بعد الاحتلال بتعليق المعتقلين من أيديهم أو أرجلهم، الجلد، الصعق الكهربائي والحرق بالحامض، والاعتداء الجنسي. وتوفي منهم ستة سجناء اثناء التعذيب بدون تدخل امريكي وواحد من بينهم توفي بسبب "عملية غير معروفة". 

3. النظام المجزأ (frago 242): سياسة التحالف بعدم التحقيق في عمليات التعذيب لأن الموضوع "غير ضروري".

4. قتل العراقيين حتى بعد استسلامهم. تفيد هذه النقطة بأن نفس قادة المروحية في الفيديو المشهور، قتلوا مقاتلين عراقيين في عام 2007 بعد استسلامهم للمروحية وخاطبوهم بالقول "لا يمكنكم الاستسلام للمروحية".

5. المتجولون على الحدود مع ايران. في يوليو 2009 ، أبلغت الحكومة الأمريكية عن اختطاف ثلاثة مسافرين على الجانب العراقي من الحدود بين العراق وإيران. ولكن تقرير ويكيليكس يدعي بوجود نية لاثارة الدعاية بما يتعلق بالسياسة الخارجية لايران. وتستفيد القيادة الايرانية بتركيز اهتمام المواطنين على التهديد الخارجي بدل الخلافات الداخلية (هذه النقطة صادمة أيضا بالنسبة لي لأنها تشير بشكل او بآخر الى تواطؤ ايران مع امريكا في حرب العراق).

6. الصراع الأمريكي الايراني. تكشف الوثائق أيضًا أن إيران وحزب الله يدعمان ويدربان بشكل نشط المتشددين الشيعة المناهضين لأمريكا في العراق، مثل أزهر الدليمي، الذي اختطف أربعة جنود أمريكيين وقطع رؤوسهم قبل أن تحتجزه القوات الأمريكية في نهاية المطاف. تصف صحيفة نيويورك تايمز الصراع بأنه "حرب الظل بين الولايات المتحدة والميليشيات العراقية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني".

7. أهمية الديمقراطية!  في 391832 وثيقة تظهر كلمة "الديمقراطية" ثماني مرات فقط.

8. دور سوريا (الكاتب يسميها "التواطؤ" السوري): تشير التسريبات أن المقاومة العراقية كانت تجد في سوريا الملاذ الامن، حيث كانت قوات المقاومة العراقية تعبر الحدود السورية  وتهرب الى داخل سوريا دون أن تتعرض لها القوات السورية وتعترض طريقها.

اعتقال اسانج

اعتقل أسانج عام 2010 في بريطانيا بعد أن أصدرت السويد مذكرة اعتقال بحقه بتهمة (ملفقة أغلب الظن) الاغتصاب والتحرش الجنسي. رفض أسانج أن يحاكم في السويد وطلب اللجوء السياسي الى الاكوادور ولكن المحكمة العليا البريطانية رفضت طلبه، وبعد مرور أيام قليلة على هذه الحادثة لجأ الى سفارة الاكوادور في لندن ومكث هناك الى أن سحب الرئيس الاكوادوري لينين مورينو حق اللجوء منه بعد تسريب صور تربط الرئيس الاكوادوري بتهم فساد، وتم وتسلميه الى المملكة المتحدة على أن لا يتم تسلميه لبلد فيها حكم الإعدام.

بعد اعتقال جوليان اسانج، أبدى العديد من الكتاب خوفهم على حرية التعبير وحرية الفكر، الجريمة الحقيقية التي ارتكبها اسانج ليست اعتداءه على النساء (وهي تهم ملفقة أغلب الظن كما ذكرنا) بل تجاوزه للخطوط الحمر التي وضعتها الرأسمالية. وما نقوله عن الخطوط الحمر التي وضعتها الرأسمالية ليس صادرا من خلفية ايديولوجية مفصولة عن الواقع، بل انطلاقا من وقائع. نخص بالذكر هنا الدعوى الجنائية التي قدمتها الولايات المتحدة ضد اسانج، تتكون هذه الدعوى من 40 مادة ليس من بينها ما يصلح أن نسميه جريمة، بل مجرد قواعد واملاءات لكيفية ممارسة الصحافة في عصر العولمة.

 

 

ردود الفعل

بعد اعتقال جوليان اسانج، أبدى العديد من الكتاب خوفهم على حرية التعبير وحرية الفكر، الجريمة الحقيقية التي ارتكبها اسانج ليست اعتداءه على النساء (وهي تهم ملفقة أغلب الظن كما ذكرنا) بل تجاوزه للخطوط الحمر التي وضعتها الرأسمالية. وما نقوله عن الخطوط الحمر التي وضعتها الرأسمالية ليس صادرا من خلفية ايديولوجية مفصولة عن الواقع، بل انطلاقا من وقائع. نخص بالذكر هنا الدعوى الجنائية التي قدمتها الولايات المتحدة ضد اسانج، تتكون هذه الدعوى من 40 صفحة ليس من بينها ما يصلح أن نسميه جريمة، بل مجرد قواعد واملاءات لكيفية ممارسة الصحافة في عصر العولمة.

 

من ردود  الفعل العديدة على اعتقال جوليان أسانج لنأخذ بضعة مقاطع من حوار نعوم تشومسكي مع ايمي جودمان ونبني عليها.

"حسنًا، فإن اعتقال أسانج فضیحة من عدة جوانب. وأحد هذه الجوانب هو العمل المشترك للحکومات في هذه العملیة - وليس فقط حکومة الولايات المتحدة فقط. الآن: البريطانيون يتعاونون، الاكوادور، بالطبع، تتعاون الآن. السويد، تعاونت من قبل. إن الجهود المبذولة المشترکة کان لإسكات الصحفي الذي كان ينتج مواد اعلامیة لم يرغب الأشخاص الموجودون في السلطة في معرفة جمهور العوام بها، حسناً هذا ما حدث بالضبط. كانت ويكيليكس تنشر مواد يجب أن يعرفها الناس عن من هم في السلطة، والناس في السلطة لا يحبون ذلك، لذلك کان عليهم اسکاته؟ هذه ماهیة الشيء، نوع الفضيحة التي حدثت، ولسوء الحظ، حدثت مرارًا وتكرارًا".

 "حسنًا، لنعد إلى التاريخ. قد يتذكر البعض منكم عندما وضعت حكومة موسوليني الفاشية أنطونيو غرامشي في السجن. وقال المدعي العام: "علينا إسكات هذا الصوت لمدة ٢٠ عامًا. لا يمكن أن ندعه يتكلم" هذا اسانج وهذا لولا و هناك حالات أخرى، کلها نفس الفضیحة."

 

"کمثال لنأخذ  اتفاقات التجارة مع الصين. حسنا؟ ما هي الاتفاقيات التجارية؟ إنها محاولة لمنع التنمية الاقتصادية في الصين. هذا هو بالضبط ما هم عليه. الآن، الصين لديها نموذج للتنمية. إدارة ترامب لا تحب ذلك. لذلك دعونا نقوضها. اسأل نفسك: ماذا سيحدث إذا لم تلتزم الصين بالقواعد التي تحاول الولايات المتحدة فرضها؟ الصين، على سبيل المثال، عندما تستثمر شرکة بوینغ او مایکروسوفت او الشرکات الکبری الاخری في الصين؛ تريد الصين أن تتحكم بعض الشيء في طبيعة هذا الاستثمار."

 

ما الذي نستنتجه؟

في عصر العولمة والعالم الافتراضي لم يعد بإمكان الدولة أن تحتكر كل الثروة المعرفية بيدها وتطبق قبضتها عليها. من مجمل التنازلات التي قدمتها الدول البرجوازية قديما هو ما يعرف بالديمقراطية الليبرالية كإطار قانوني وتقديم الحكومات لنفسها كسلطات فوق طبقية  غير منحازة لطبقة من طبقات المجتمع. ولكن الجوهر الحقيقي للدولة هو كونها اطارا قمعيا وظيفته حراسة نمط الانتاج القائم داخلها، الديمقراطية الليبرالية كإطار قانوني والتنازلات العديدة التي قدمتها الدول الرأسمالية ابان الحرب الباردة أغشت عيون الشعوب عن هذا الدور الوظيفي للدولة. هذا الاطار القانوني يثقل كاهل هذه الدول المترهلة التي بذلت المستحيل للتخلص من صحفي لا يدعو لثورة ولا لتضامن أممي وفي ارائه هو لا يتعدى كونه اصلاحيا، هذه الوقائع نستنتج من خلالها مدى هشاشة الدول البرجوازية، ونستنتج كذلك أن هذه الدول في سبيل بقائها لن تملك أي مشكلة في طرح الديمقراطية الليبرالية جانبا لغرض المحافظة على بقائها وترسيخ وجودها كثابتة كونية.

 هذه الوقائع في عالم اليوم تجعلنا اليوم نرى بوضوح الى أين تتجه الدول البرجوازية، انها تتجه في طريق أكثر توحشا، وتفقد صوابها، العولمة ربطت هذه الدول بعضها ببعض، وقضية جوليان أسانج لا تتعلق بسياسات هذه الحكومة أو تلك فقط، بل هي أزمة بنيوية للرأسمالية الحديثة المعولمة. تراجع سطوة هذه الدول على الصعيد العالمي في مواجهة روسيا والصين يشغلها بأزماتها الداخلية ويدخلها في طريق الفاشية داخليا، بينما خارجيا لن تجد حلا لأزمتها سوى افتعال الحروب (رغم محدودية قدرتها) لنهب مقدرات باقي الشعوب، كما يفعل ترامب اليوم مع بقرته (او بقراته) الحلوب في الخليج، والحرب التجارية مع الصين وفرض العقوبات على ايران. هذا ما نستنتجه ونراه في الدول البرجوازية أما فيما يتعلق بنا فان الأقاويل الأيديولوجية التي روجت لنهاية التاريخ بالديمقراطية الليبرالية والتي تبناها مثقفون تقادمت، وفي مواجهة التوحش المتوقع لهذه الدول عليانا أن نعلي صوت التضامن الأممي، بدراسة معمقة للتغيرات الكثيرة التي طرأت على التكوين الاجتماعي لمجتمعاتنا وايجاد السبل المناسبة لقطع كل صلة تبعية بهذه الدول وبناء وطننا المستقل اقتصاديا.