news-details

عَمّي بو يوسف| نمر نمر

-عمّي بو يوسف من فضلك افتحلنا الباب حتى نوخذ دَقّة كُبّة إجانا ضيوف، بدّنا نقوم بواجبهم!

-عمّي بو يوسف بِحْياتك إسحلنا نوخذ قناني مَيّ مْسَقّعة من البرميل اللي في المخزن!

-عمّي بو يوسف بِمَعِيّتَكْ بدّنا نْحِلْ كام إبريق شراب، والمَطَرة في مخزن الزُّهْبة!

 وتتكاثر الطّلبات على العمّ بو يوسف، من كبيرو لصغيرو، عمّي بو يوسف... عمّي بو يوسف... عمّي أبو يوسف... يرمق هذا كلَّ طالب بنظرة سريعة من أخمص قدمه إلى قمّة رأسه، فهو يعرف الجميع، أكثر ممّا يعرفه كلُّ الجميع، هل هؤلاء الطّالبين والطّالبات يمتّون للمناسبة، أم يصطادون في المياه العكرة، لمقاصد لا تمتّ للموضوع، سلّموه مفتاح مخزن الزُّهْبة التي يكون بها بياض وِجِهْ أو سواد وجه، طبقاً للسيطرة عل المخزن والمحتويات الغذائية.

 هو بسيط، ابن حلال، صاحب ذّمّة وْوِجدان، عفيف النّفس، شبعان في بيتو، لا يعرف معنى للطمع، أهل البلدة أجمعوا كلّهم على أمانته وإخلاصه، لذلك سلّموه زمام الأمور: وزير الماليّة، وزير الاقتصاد، وزير الرّفاه الاجتماعي، وزير التّموين بلغة اليوم، ما حدا إشْتَلَقْ عليه بالغشّ أو خيانة الأمانة، سيرته حافلة بالوفاء والحياد الإيجابي، منذ صِغَره وحتى شيخوخته وهو في التّسعين من عمره، كان من مواليد العُشْر الأخير من القرن التّاسع عشر/ عاصر الأتراك العثمانيّين، السلطان عبد الحميد/ المظلوم/ الأحمر/ المعزول، كما عاش عهد السّفر –برلك، فرمان النّفير العام 1914 وما تمخّض عنه، التّجنيد  الإلزامي، فترة المجاعة، التّجويع، هجوم واجتياح أرتال الجراد للمنطقة، الإعدام والقتل وجمال باشا السّفاح، المشانق وغيرها.

 لجأ الى جبل العرب هرباً من التّجنيد، واستوطن قرية الْقْرَيّة، تبنّته عائلة مستورة الحال، اعتبروه أحد أفراد الأسرة، نشأ مع البنين والبنات، لَهُ ما لَهُمْ وعليه ما عليهم، وتفوّق على إخوته وأخواته، فكان صاحب مْرِوّة، غيوراً بمعناها الإيجابي، مصلحته من مصلحة البيت، ماكل، شارب، قايم، نايم، إصْبَحْ تِسْرَح، ما بِتْطَلَّع بِإخْوَتِه، يسابقهم على كافّة الأشغال والأعمال في البيت والمزرعة.

جيلُهُ يقارب جيلَ أبي طلال، ربّما لعبا معاً وسهرا معاً وأكلا معاً، أعْجِبَ أبو طلال بِسليم تواضعاً، أخلاقاً، أمانة وإخلاصاً، ناهيكَ عن المْرِوّة، المبادرة، التّطوّع والتّفاني لأجل المصلحة العامّة وتسامح بلا حدود في أرض الجود والشّهامة.

 أبو طلال فاتَح وصارَح صديقه سليم في ساعة رحمانيّة: شو رايَكْ يا سليم! تيجي وتعيش عنّا في بيتنا، وْبِتْكون مْعَزَّزْ مْكَرّم زْيادة، وْإلَكْ عين تْشوف!

-البَتُّ في الموضوع ليس بيدي! إسْأل أهلي، الأمْرُ أمْرُهم، ولن أخرج عن طاعتهم، مهما كانت التّحدّيات والإغراءات!

 أبو طلال فاتح العائلة بالتّنازل عن سليم!

-وكان الرّدّ حاسماً: سليم/سلمان منّا أهلَ البيتّ!

وأبو طلال مِمّن يُقدّرون الرّجال والمواقف والرّأي السّديد وحُرّية الاختيار، دون إكراه أو إجبار، لا مقهور ولا مجبور طبقاً لقضايا مصيريّة ومبادئ إنسانيّة وشخصيّة، كان حَبّْ علينا نكون مع بعضنا، وشعارنا الدّين لله والوطن للجميع، وعرف سليم قصّة بناء الكنيسة الضّيّقة في القْرّيّة بجوار أبي طلال:

-لماذا تبنون كنيسة ضيّقة هنا؟

-لأنّنا أقلّيّة قليلة وهي تتّسع لنا!

-ولكنّنا نريدها أن تتّسع لنا جميعاً!

-ومن أين لنا الأرض يا عمّي؟

-هاكُم أرضي المجاورة، خذوا ما شِئتم وابنوها رحبة كي تتّسع لنا جميعاً! واسألوا المؤرّخ حنّا أبو راشد وعقلة القطامي وبقيّة الرّبْع!

-شو خَصّ عُقلة القطامي في الموضوع؟

-خَيَّرَهُ القائد الفرنسي بين البقاء مع الثّوار، أو حَرْق بيته وهدمه وَنَفْيِهِ!

-قال هذا: أنا مع وطني قبل أن أكون إنْجيليّاً!

 قُتِلَ مَن قٌتِل، ومات من مات جوعاً، وانقطعت أخبار الكثيرين، ما كان فيه: يّمّا إرحميني، ويعود الحنين إلى الوطن عند سليم، والغربة عنده لم تكُن قتّالة! بل عاش سعيداً بالنّسبة للآخرين، خامرتْه خواطر وأحاسيس، حساب مع الذّات وَجَلْد مع تأنيب الضّمير، ينتظرني البيت المهجور، وطاقة السِّر بين بيتنا وبيت عمّي أبو علي إبراهيم، كانت بمثابة حلقة التّواصل بيننا وبين جيران الرّضى، بيننا هناك الخبز والملح كذلك، أسْرتي صانت الكتاب المقدّس، لئلاّ يُدَنِّسَه الأشرار الذين هجموا على البلدة بعد مقتل الأفندي، وانتزاع الأراضي بالقوّة، ظاهرهم الانتقام وسداد الثّأر وباطنهم السّلب والنّهب والطّمع وإعاثة الفساد والخراب والحرق والاعتداء على الممتلكات، حَلّة حَبل، كل مين إيدو إلو...

-صاح ابن المغدور بكلّ ما أوتِيَ به من صوت وقوّة: مْوَجِّهْ الله عليكو يا هايشين: المغدور أبي، والدّمّ دمي، لا تْضَوّعولي حقّي، كل واحد يرجع على بلدو حالاً!

-يقول سليم والله وْأهلي تْمَرْجَلوا، أخذوا الكنز واحتفظوا به  حتى عاد أصحابه الى بيوتهم، ليتسلّموا كنزهم الرّوحي ساغ سليم، وأضاف هذا السّليم اليافع، تنتظرني كروم الزّيتون والتّين في الخُرَب، خَلّة صِفِد، قعدة الصّبّاغ، وِرْثِة دار شقّور وْدار الصّبّاغ، وعادت إلى مُخَيّلته أيام الضّيم والهلاك، ودفع بدل الخدمة العسكريّة مبلغ ثلاثين ليرة ذهب نَقْدي شِنْدي، وتذكّر قصّة المُجنَّد أبو كنج، قائد الفصيل في الجيش العثماني، يخوض المعركة مع جنوده يُقْتَل الجميع ويعود وحده، ليعيد الكَرّة مع فصيل ثان وثالث ورابع ونفس النّتيجة! أمّا سّرُّ نجاته طبقاً لاعترافاته: عمري ما صَوَّبِت البارودة على جندي، كنت أقَوِّس عَكّاري لَفوق دايماً في الهوا، وما حَطّيت حدا بِذِمْتي!

 يجد سليم إلياس نفسه بين أهله الأوائل، الحنين الى الوطن ظلّ مسكوناً به، تَأهّلَ وعرس زفاف، رُزق ببنين وبنات، لم تُكْتَب لهم الحياة، نذر نذراً هو والقرينة خزنة: إذا ألله أطعمنا ولد او بنت وبقي على قيد الحياة، النّذْرُ على جاه النّبي سبلان: ذبيحة ووليمة قي المقام!، وصاروا ينادونه عمّي بو يوسف سليم، ربّما يكون تيمّناً بيوسف الصّدّيق، أو بيوسف النّجار، والعِلْم عند الله وعند أبي يوسف وأمّ يوسف التي اعتمرت النّقاب/ الفوطة/الشّاشة البيضاء، أسوة بنساء القرية.

-خالتي أمّ يوسف عيرينا ببّور الكاز!

-خالتي أم يوسف إقرضينا خمس-تُرُغْفة، إجانا ضيوف!

-خالتي أم يوسف إقرضينا كبّاية سُكّر، إوْقِيّة زيت، كاز، خميرة، نُصّ ليرة. سهرات مُشتركة، طبخات مشتركة، واقعيّة اشتراكيّة.

-جارنا بو يوسف أقعدلي في الدّكّان، عَلَيّ كام شغلة بدّي أقضيها!

-تكرم جارنا بو محمد، الله يْسهّل عليك، على مهلك! دارَكْ أمان!

تحلحلت بعض الأمور اقتصاديّاً واشتدّت روابط العلاقات الأخوية، وجاءت الأيّام الملاح: الزّفّات، التّأهيل، ويُنتدَب أبو يوسف ليكون أمين مخزن الزّهبة في كل المناسبات، ابن حلال، وعادت الطلبات: عمّي بو يوسف... عمّي بو يوسف... عمّي بو يوسف سليم الياس...

ويأتي سليم الثّاني متحمّساً مشحوناً بشحنات كهرو- مائيّة، وفي جعبته الكثير من المقترحات والمشاريع المستقبليّة مع رؤية واقعيّة ورؤيا أفقيّة، ليُرمّم ما اندثر، ويشيّد ما انهدم، سهام وشُهُب تراثيّة، قبل أن يفوت الأوان، ويقول لعبد الله الطّاعن سنّاً: هاي حكايتي حكيتها وِبْحُضْنَك يا عبد الله حطّيتها!

-كل اللي اقترحتو مضبوط، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، حبّذا لو بحثتَ عن طلائعيّ مثلك!

-نحن لها!

-والله وليّ التّوفيق، (والمجد لله)، كما ردّد عمّي بو يوسف طيلة حياته الحافلة بالبِزّ والإحسان!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب