news-details

فشل الاخوان في تونس والمغرب: الاسلام السياسي ليس قدرًا| حسن مصاروة

السقوط المدوي لحزب العدالة والتنمية، الإخواني المغربي، والهزيمة القاسية التي تلقاها في الانتخابات البرلمانية المغربية، بعد 10 أعوام قضاها في رئاسة الحكومة، وانخفاض تمثيله من 125 مقعدًا في رئاسة الحكومة إلى 12 مقعدًا فقط، مباشرةً بعد الهزيمة الموجعة التي تلقاها فرع الإخوان في تونس، حركة النهضة، اثر خطوة انقلاب سعيد عليهم، وهي خطوة بغض النظر عن رأينا فيها ضمن تحليلنا للسياق السياسي التونسي كاملاً، إلا أنها لا شك كانت تستند على نفور وغضب شعبي عارم على حركة النهضة وسياساتها، تُشكل كلاهما هزيمة كبيرة لمشروع الإخوان المسلمين والاسلام السياسي وتجليًا آخر لإخفاقه التاريخي، وفضحًا للسراب الخادع الذي يطرحه.



حكم الاسلاموية= البطالة والفقر والفساد+ "الشريعة"


 

يفسر أولفيه روا في كتابه "تجربة الاسلام السياسي" الفشل التاريخي للأحزاب والحركات الاسلاموية، بـ"أننا لم نشهد في أي من تلك البلاد التي وصلت فيها إلى السلطة قيام مجتمع جديد، وان ظهور ما يسمى الاقتصاد الاسلامي كان ليس إلا  مجرد خطاب بليغ"، فهو بيان تَلبس في معظم الدول التي حكم فيها لبوس الليبرالية الاقتصادية النازعة نحو المضاربة أكثر من نزوعها نحو الانتاج، بمعنى آخر لا يملك في جعبته أي حلول اقتصادية-اجتماعية تنطلق من تغيير المنظومة القائمة، فيكتفي بإعطاء غطاء خطابي "إسلامي" للمنظومة الاقتصادية القائمة ومشاكلها.

 

ولم يتوقع روا في كتابه الصادر عام 1992 أن تتوارى حركات الاسلام السياسي عن المسرح السياسي، بل على العكس فهو كان يشهد ازدياد نشاطها وشيوعها وانخراطها في المشهد السياسي، لكنه يقول إنها "فقدت محركها الأصلي ومحرّضها الأول"، وفي تشبيه بليغ يقول إنها "باتت اشتراكية ديموقراطية"، قاصدًا تلك الحركات اليسارية في الغرب التي سلّمت بأبدية المنظومة الاقتصادية القائمة وتخلّت عن فكرة قلبها وتجاوز الرأسمالية نحو مجتمع على شكل آخر. فيقول إن الاسلاموية "ما عادت تُقدم نموذجًا لمجتمع آخر أو لغدٍ مشرق وهكذا فإن كل انتصار لها في بلد مسلم اليوم لن يكون إلا سرابًا خادعًا، بحيث أنه لن يغير شيئًا الا العادات والقوانين". واعتقد أن الاسلاموية، وعلى رأسها حركات الاخوان المسلمين، استحالت إلى سلفية جديدة لا يشغلها شاغل سوى إقامة القانون الاسلامي، أي تطبيق "الشريعة" دون أن تخترع أشكالاً سياسية جديدة، "الأمر الذي يحكم عليها بألا تكون سوى واجهة لمنطق سياسي يفلت منها، في حين تتوزعها كافة الانقسامات والتشرذمات التقليدية".

 

ويعيد روا هذا الاخفاق التاريخي إلى إخفاق فكري أساسي، فالفكر الاسلاموي يقوم على مأزق فكري ابتدائي: فمن جهة ان وجود مجتمع سياسي اسلامي، حسب الحركة الاسلاموية، شرط لا بد منه لكي يتمكن المؤمن من الارتقاء إلى الفضيلة، ولكن من جهة أخرى، لا يستطيع هذا المجتمع أن يكون فاعلاً إلا عبر فضيلة أولئك الذين يتقوم بهم، ولا سيما القادة. أي النموذج السياسي الذي يقترحونه يفترض مسبقًا الفضيلة في الأفراد-إلا أن هذه الفضيلة لا يمكن اكتسابها إلا إذا كان المجتمع اسلاميًا حقًا، وفق تصورهم هم. إذا الفكر الاسلاموي، الذي هو فكر سياسي في الدرجة الاولى، ينتهي إلى التخفف من كل ما يتقوم به السياسي، فلا يجد في السياسي إلا أداة في التبشير الأخلاقي. ويلخص روا هذه الاخفاقات الفكرية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والسراب الاقتصادي الذي تنبني عليه بوصفه مجرد بلاغة خطابية، أن النموذج الاسلامي بالنسبة للأغنياء هو المملكة العربية السعودية، أي يساوي: الريع+الشريعة. أما بالنسبة للفقراء فهو باكستان والسودان (في حينه)، أي يساوي: البطالة+الشريعة.

 

طبعًا لا حزب النهضة في تونس ولا العدالة والتنمية في المغرب اقتربا حتى من محاولة "تطبيق الشريعة" -أيًا ما كان يعني ذلك- فالنهضة اصطدمت بنخب سياسية مناهضة وازنة وثقافة سياسية علمانية سائدة لدى قطاعات شعبية واسعة وتقليد سياسي سابق بقي لديه وزنه بعد الثورة مما اضطرها إلى الوصول إلى تسويات تمثّلت بما سمته "فصل الدعوي عن السياسي". والعدالة والتنمية في المغرب وصلت إلى رئاسة الحكومة في نظام يمنح الحكومة المنتخبة سيادة منقوصة في ظل سقف سياسي متدنٍ يحكمه النظام الملكي وبتفاهمات وتسويات مع الملك الذي يُعين الوزارات السيادية أصلاً. والحركات الإسلاموية على شاكلة الإخوان المسلمين هي أصلاً أقل الحاحًا على "تطبيق الشريعة" من السلفيين التقليديين الذين يرون في تطبيق الشريعة مفتاحًا في أسلمة المجتمع، أما الإخوان يميلون إلى جعل الشريعة "مشروعًا لا مدونة"، ووفق طرحهم، فإن فرض الشريعة يفترض تحويل المجتمع أولاً، فيصبح ذلك كله تحت طائلة أن تتحول العملية كلها إلى عملية مستمرة لا نهاية لها من الرياء والنفاق. لذلك فإن موضع الرهان لديهم هو إعادة تحديد النسيج الاجتماعي ولحمته الاجتماعية، انطلاقًا من السياسي وليس من مجرد تطبيق الشريعة. حتى لدى حركة إسلامية مثل الحركة الاسلامية في إيران التي استفردت بالحكم بثورة حقيقية وسنحت لها الفرصة بفرض نظامها السياسي تكلم الخميني في عام 1989 أن "المنطق الثوري يتقدم على تطبيق الشريعة"، بنفس المنطق الذي تحدث فيه سيد قطب عن "الفقه الحركي" الذي يصدر عن التأويل الذي يقوم به أولئك الذين يجاهدون من أجل الإسلام، وتبعًا للشروط والأوضاع الاجتماعية، في مقابل فقه العلماء المتحجر.

 

ويلاحظ المغاربة أنفسهم كيف أن حزب العدالة والتنمية لم يمتلك برنامجًا اقتصاديًا أو مشروعًا مجتمعيًا واضحًا، باستثناء بعض الشعارات العامة عن الهوية الإسلامية للبلاد، ما جعل المراكز المقررة فعليًا في سياسة الدولة يستمرون في فعل ما كانوا يقومون به نفسه، وكأنّ شيئًا لم يتغيّر في المشهد الحزبي، بل استُخدم الحزب في تمرير أقصى القرارات النيوليبرالية والمضرة بالفئات الشعبية والوسطى، والتي لم تجرؤ حكومة سابقة على تمريرها. ومن هذه القرارات؛ رفع الدعم عن سلع ضرورية، مثل السكر والدقيق والمحروقات، ورفع سنّ التقاعد، وإلغاء التعيين في الوظائف التعليمية واستبدالها بتعاقدات محددة، وغيرها من القرارات التي همّشت الطبقة الوسطى والطبقات المسحوقة، وزدات الأعباء الحياتية على المواطنين. وحتى القضية الفلسطينية التي تعد أحد أهم مخزونات الشرعية الأخلاقية للحركات الاسلامية، تخلى عنها العدالة والتنمية، ورضخ لقرار الملك وأقر التطبيع.
 

يعني في المحصلة، الـ"حكم الاسلامي" في المغرب وتونس، تبين أنه يساوي ببساطة: الفساد والفقر والبطالة والنهب+ بلاغة خطابية اسلامية والتوكل على الله والصلاة على النبي.

 


الاسلاموية بوصفها قضاء وقدرًا


ينتقد المفكر السوري عزيز العظمة، صاحب كتاب "إسلامات وحداثات" و"العلمانية من منظور آخر"، أحد اتجاهات التحليل السائدة لصعود الاسلام السياسي في العالم العربي، التي تستكين إلى التحليل بالاتجاه لما يسميه "صياغة سوسيولوجية للقضاء والقدر". ويقول إن الاحالة على القضاء والقدر شأنٌ مألوف في العلوم الاجتماعية والانسانية خصوصًا تلك المستندة إلى سطوة التصورات الأصولية على أنواعها، المتضافرة مع الطائفية العامة، المضارعة بدورها لمذاهب ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، من تصور للحتمية الثقافية والارتكاز إلى ثوابت مفترضة في الطبائع الاثنلوجية في الجماعات. ويؤكد أن تلك التصورات باتت بالغة الشيوع في الفكر العربي وأنها اتخذت في العقود الثلاثة الأخيرة، موقعًا مهيمنًا منه، مؤازرةً بذلك عن وعي أو دون وعي، التصورات التي تنشرها بيننا الجماعات السياسية الاسلاموية. وعلى رأس تلك التصورات التي ينتقدها العظام، هي التصور أن لدى المسلمين نوازع طبيعية نحو الأصولية، وأن الاسلام بالولادة يفيد الاسلام السياسي ضرورةً.



ويضيف العظمة أن هذه النظرة الزائفة عن المجتمعات المسلمة، يعززها نظامٌ عالمي وبنية تحتية للانتشار على امتداد العالم، أي ما يُعرف بنظرية "الاستثناء الاسلامي"، والتي تفيد إعفاء المسلمين من الشروط التي تحكم التاريخ والفعل الاجتماعي والجنس البشري على العموم، واستثناء المسلمين من سُلم الرقي بحكم "تشوه خلقي" مزعوم فطروا عليه. وينتقد العظمة تلك المجموعة الكبيرة من بين العرب والمسلمين الذين يتبنون تلك النظرة العنصرية الاستعلائية الاستشراقية عن ذاتهم، بل يرون في ذلك مدعاة للفخر والاعتزاز، وإذا تم إنباء هؤلاء بأن المجتمعات قابلة للتحول، ومتحولة على الدوام وأن التحول سنة التاريخ وفحواه ومعناه، نجدهم يذهبون إلى أن هذا لا ينسحب، على من يحلو لأصحاب هذه النظرة، وسمهم بسمة الاسلاموية ودمغهم بشارتها حصرًا. ويقول إن العلامة الفارقة لهذه الدمغة، هي الإدعاء أن "مستقبل المسلمين، لا يمكن أن يكون إلا استعادتهم لماضيهم وبقائهم أسرى هذا الماضي، وأن قدرهم بالتالي، ما هو إلا النظم السياسية الإسلامية".



 هذه النظرة التي يصفها العظمة بأنها مملة وساذجة، إلا أنها بمجرى هذا التكرار وعلى تلك البساطة والسذاجة، تحمل كل السمات التي تهيئها لتصدر مجالات كسولة من تداول الرأي العام، ولتصبح كليشهات مدعومة من السياسات العربية المحافظة، ويعضدها لوجستيًا ومعنويًا، النظام الثقافي المعولم والمتعين في الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية القائمة، عقيدتها الناظمة هي النيوليبرالية السائدة منذ الثمانينيات، عمادها في هذ المجال الثقافي، الانتصار للنرجسة المحلية ومديح الخصوصية وتمجيد الغرائز المتوارثة والذود عن "العفاف الثقافي"، المتزامنة والمتضافرة مع حملة شيطنة وازدراء للعروبة الجامعة لفائدة الهويات ما قبل السياسية، وفي الاطار الأعرض، لمصلحة الاسلام السياسي.






يتحدث المفكر الماركسي الكبير سمير أمين في مجال آخر، عن التساوق بين النظرة الاورو-مركزية عن كون الاسلاموية قدر المجتمعات المسلمة المحتوم وبين التصور الذي يروج له الاسلام السياسي. يعترض سمير أمين على الفكرة الاورو-مركزية العنصرية التي تروج أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام، تعبئ جماهير واسعة، هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافيًا وسياسيًا على المسرح العالمي، وهي شعوب لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتد لعصورها القديمة وحدها. هذا الادعاء المشوه الذي تنشره، على نطاق وسائل الاعلام المهيمنة، التبسيطية، والخطاب شبه العلمي للاورو- مركزي. وهو وفق أمين خطاب مبني على أن الغرب وحده هو القادر على اختراع الحداثة، بينما تنغلق الشعوب الإسلامية في إطار تقاليد "جامدة" لا تسمح لها بفهم وتقدير حجم التغييرات الضرورية. ويؤكد أمين أن الإسلام والشعوب المسلمة لها تاريخها، مثل بقية الشعوب، والذي يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته. ولكن أمين يستنتج حقيقة مهمة وهي أن هذا التاريخ الغني والمتعدد والمتحول والمتغير لا يتعرض للإنكار فقط على يد الخطاب الأورو-مركزي وحسب، بل أيضًا على يد حركات الإسلام السياسي المعاصرة. فكلا الطرفين يشتركان في الواقع، في الفكرة الثقافية القائلة بأن المسارات المختلفة للشعوب لها "خصوصيتها" المتميزة غير القابلة للتقييم والقياس والعابرة للتاريخ. ففي مقابل المركزية الأوربية، لا يقدم الإسلام السياسي المعاصر سوى "مركزية أوربية معكوسة".

 

الجذور التاريخية لصعود الاسلام السياسي


ولفضح زيف هذه النظرة التي ترى في "الاسلام السياسي" قدرًا محتومًا للمجتمعات العربية والمسلمة نابعًا من صميم أصالتها ومسارها الوحيد الممكن، يكفي أن ننظر إلى الجذور التاريخية والاقتصادية الاجتماعية العينية التي أدت إلى صعود هذه الظاهرة، كظاهرة تاريخية غير متعالية على التطور والتحول التاريخي المتعلق بتحول البنى الاجتماعية الاقتصادية لننزع عنها "سحرها" المزعوم. أدى تزايد السكان والهجرة الريفية، بدءًا من الستينيات، في بلدان الشرق الأوسط إلى تضخم المدن بحيث أن الدولة باتت عاجزة عن تشغيل المرافق العامة، لا بل حتى القيام بأعباء العمران المديني، كما ان تنامي نسبة التعليم وتزايد ارتياد المدارس في الفترة نفسها، وتضافر ذلك مع القيود المفروضة على ميزانيات الانفاق، وبالتالي الانخفاض النسبي في فرص العمل التي توفرها الدولة- كل ذلك أدى الى توسع شريحة من المثقفين الذين انحدرت مرتبتهم وباتوا أقرب إلى العمال البروليتاريين. فرص العمل لم تكن على مستوى آمالهم وشروط المعيشة في الجامعات تتفاقم، مما جعلهم مهيئين للانخراط كمناضلين ثم ككوادر في أية مغامرة احتجاجية، ذلك المجال الاحتجاجي والرفضي الذي وفره الاسلام السياسي. ومختلف السياسات الاقتصادية الليبرالية التي مارستها الحكومات العربية بدءًا من السبعينيات تحت ضغط صندوق النقد الدولي، التي اتجهت إلى تفكيك القطاع العام والغائه، مثل فترة الانفتاح الساداتي في مصر، أفضت إلى انحطاط وضعية الموظف-المثقف، هذه الفئة الاجتماعية التي وجدت نفسها خارج السياسة والتأثير السياسي، والدولة أصبحت خارج متناولهم أمام صعود رجال الأعمال والأغنياء الجدد على موجة الانفتاح الاقتصادي. هذه الطبقة المدينية بالأساس، من المثقفين برتبة العمالة المسحوقة، كانت القاعدة الأساسية لكوادر حركات الاسلام السياسي ورافد صعودها. وأحد أسباب نجاح الاسلام السياسي بتجنيدهم يكمن في أن الايديولوجيات التي كانت تحتل حقل الرفض والاحتجاج، مثل العلمانيين والقوميين والماركسيين، باتت في حالة تراجع مستمر. فتراجع مهابة الايديولوجيات التقدمية واخفاق أنموذج "الاشتراكية العربية" تركا مكانًا شاغرًا أمام ايديولوجيات احتجاجية ورفضية جديدة، داخل مجتمعات مفككة البنى انبعثت فيها فجأة أفكار الأصول والهوية.

 

 

أما المفكر الاقتصادي اللبناني علي قادري فيشرح في كتابه "تفكيك الاشتراكية العربية" جانبًا آخر-خارجيًا- لصعود الاسلام السياسي يتعلق بالهيمنة الامبريالية الأمريكية على المنطقة وطبيعة علاقة الاقتصادات التبعية مع المركز الامبريالي، وأوضح كيف أن مع صعود رأس المال الكومبرادوري التجاري إلى السلطة في البلدان العربيّة - تدرّجًا، بدءًا بمصر التي جنحت إلى الجانب الأمريكي الإمبريالي، بعد اتفاقات كامب دايفيد عام 1978 - استُخدِمَت مداخيل النفط عمدًا لبث الانقسام في المجتمعات، ووجدت في الاسلام السياسي خير سلاح لتعميق ذلك الانقسام.  ويشير قادري إلى أنه يتضح لدى إعادة الاعتبار، أن الانقسام بين العلمانية القومية العربيّة والنظم الملكية والإسلامية عكست صورة الانشطار الأمريكي - السوفياتي، أثناء الحرب الباردة، دول الخليج، التي يستند أمنها وسيادتها إلى حماية أمريكية إمبرياليّة، شيعت وموّلت الإسلام السياسي المنادي بالأسواق الحرة، أو العقائد والحركات السلفيّة: وتمويلها الجهاديين الأفغان هو واقعة تاريخيّة واحدة. وبعد احتلال العراق، وصعود الميليشيات التي يدعمها الشيعة، رسملَت الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على هذه المذهبيّة من أجل إيقاد نزاعات إقليميّة لا تنتهي، ترعاها وتموّلها الأيديولوجيا الوهّابيّة المُستحدثة أمريكيًا، فهذه الوهابية لا صلة لها بتلك التاريخية، كما أن التشيُّع الآن لا علاقة له إلا ظاهريًا أو لفظيًا، وهذه الألفاظ ترمز في ظل رأس المال إلى حيثية التموقع الطبقي. والغنائم الحقيقيّة التي تُنهَب من جرّاء اجتياح العراق، هي القوة الكونية التي يستجمعها رأس المال الذي تقوده الولايات المتحدة من تغذية الانقسام السني - الشيعي، ورفع نبرة المخاوف من الإرهاب في العالم لتحويل الهيمنة إلى أيدي أجهزة الأمن التابعة لرأس المال، وما ينتهي إليه الأمر من عسكرة. ويضيف قادري إن اجتماع التراجع الثقافي المرتبط بانخساف المعرفة المرتهنة بتطور الصناعة الوطنيّة، مع البطالة في غياب بدائل اشتراكيّة أيديولوجيّة، قد سهّل نمو الـ"قدريّة الروحيّة" التي تأتت أصـلاً من صعود الأيديولوجيا الإمبريالية المترابطة مع صعود أمريكا وتسيد أيديولوجيتها، أي أن القوة الفعلية للإمبريالية هي التي منها تُستمدُ قوتها الأيديولوجية. ومع تزايد تلاحم رأس المال عبر الحدود المعولمة من خلال المَوألة (Financialisation))، وتنامي فاعليّة تنظيمه من خلال المؤسّسات المالية الدوليّة، جاءت الظاهرة الثقافية القديمة - الجديدة، ظاهرةُ الإسلام السياسي، ثم السلفي - مع بدء مجيء الدعم الاستعماريّ لتشييء الأشكال المبنيّة من الهويات في الدول - لتمزيق الطبقات العاملة.



في محاضرة أخرى مهمة لعزيز العظمة بعنوان "الاسلاموية ليس قدر المجتمعات العربية"، يخرج بنتيجة مفادها أنّ الدّين في العالم العربيّ وعلى مدى فترة قرن ونصف القرن انسحب تقريبًا من اشتباكاته بمساحات مختلفة من الحياة: التّعليم والقانون والتّنظيم الاجتماعي والثّقافة والسّياسة والنّماذج المعرفيّة، مخليًا الطّريق للقانون المدنيّ والمدنيّة والدّولة والمؤسّسات التّعليميّة الخاصّة؛ وتراجع الدّين إلى الهوامش على الرّغم من وجود الحضور الرمزيّ الرّسميّ، كما أنّ وجوده الرّسمي قد تمّ قيادته تحت نطاق السّيطرة البيروقراطيّة للدّولة، الّتي في الكثير من الحالات قد تعلمنت. الا أن تقلّص الخطاب الإصلاحي الإسلامي، وتخبّط عمليات الإصلاح السّياسيّ، وتغذية قنوات التّطرف، والتّفكك الاجتماعيّ، والرّكود في مهمّة تحديث الدّول العربيّة، كلّ هذه العوامل وغيرها، دفعت الأصوليّة بالانتقال من الهامش إلى المركز بصرف النّظر عن المجتمع المحدثن أو المعلمن. ويقول العظمة إنه بموازاة هذه العلمنة المتحققة بالفعل حدث تطور مواز، وخاص بالأصولية؛ فقد تشكلت هذه الأصولية عبر “منظمات تقوية مدنية”. وكذلك عبر تشكيلات شبه عسكرية كما لدى الإخوان في مصر، وقد عملت المنظمات المدنية، على تكثيف الرموز الدينية والمشاعر وإعادة تشكيلها وتوجيهها في قنوات محددة جيّدًا ووفق اتجاه سياسي واجتماعي محدد، وهو ما أسفر عن شبكات دوائر تنظيمية وأيديولوجية واتساق دلالي ذاتي استفاد منه الإسلام السياسي والجهاديات لاحقًا. ضعف العلمنة، سمح بالتطور الموازي، فاستفادت الأصولية من الهامش، وبمرور العقود غدت تطرح الدين كبرنامج للتحول الكلي للمجتمعات.
 

ويضيف العظمة أن المشاعر الأصولية اكتسبت زخمًا قويًا في أن تكون مكتفية ذاتيًا، بصرف النظر عن المجتمع المحدّث والمعلمن، وحاولت الانتقال إلى مركزه. ويشير إلى بناء الاسلاموية لصعودها في شروط التفكك الاجتماعي والتراجع في كفاءة النظم التعليمية والركود في مهمة تحديث الدول العربية وانجرافهم نحو التخلف الاجتماعي، بما في ذلك التشجيع غير الرسمي الإيجابي للجماعات الإسلامية. وقد بنوا صعودهم أيضًا في ظل تزايد الفجوات بين الأغنياء والفقراء والنهب المدمر للاقتصاديات النيو-ليبرالية والحكم الفاسد الذي أنتجوه، وجمع من القضايا الأخرى. لقد بنوا على أسس ركود الأيديولوجيات الوضعية والحداثية القومية التي صاحبت الهزيمة العسكرية، الأمر الذي مهد الطريق إلى القومية الثقافية والهوياتية التي استخدمت الدين كصرخة لكي تحشد بها الجماهير. ويضيف أن هذا الصعود تم تهيئته بواسطة الشبكات التعليمية الهائلة والمعلومات والشبكات الأيديولوجية واللوجستية- أولاً من المملكة العربية السعودية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي عملت فيه هذه الشبكات باعتبارها عناصرًا في الحرب الباردة، كقالب ثقافي واجتماعي لعقيدة الرئيس الأمريكي ترومان. وقد وُجّه هذا إلى خلق قوات محافظة متموضعة اجتماعيًا وقوى مناهضة للحداثة وللاشتراكية في المنطقة.



خاتمة

هذا الفشل الأخير للاخوان المسلمين في تونس والمغرب، الذي يلحق بالفشل الذي أصابهم في مصر والمنطقة خلال العقد الأخير، بالإضافة إلى النفور الشعبي من الوحشية الدموية للجماعات الجهادية الاسلاموية في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة، وفهم الطبيعة التاريخية لصعود الاسلاموية بصفتها ظاهرة تصبغ مرحلة تاريخية معينة ولها جذورها التاريخية الاقتصادية-الاجتماعية المتحولة بالضرورة، لا بصفتها "ٌقدرًا" محتومًا على هذه المجتمعات، يجب أن يحث اليسار العلماني على إعادة صياغة برنامجه والتخلي عن "جبنه"، وعن "نفاقه" لمجتمع يخترعه ويتخيله على أنه مصبوغ بحكم طبيعته بالايديولوجيا الاسلامية، وليواجه بدون مواربة الايديولوجيا الاسلاموية السائدة وفضح زيف برنامجها ومشروعها دون الرعب من "صدم" الجماهير التي يتصورها  تصورًا زائفًا، هذا الرعب النابع عن القبول الضمني لمسألة إسلاموية الجماهير العربية والقبول الضمني بجوهر الطرح الأصولي الذي يرفع الدين إلى مستوى أيديولوجيا شاملة، بل ونابعة مباشرة من وعي الجماهير العربية وتراثها.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب