news-details

في انتظار الفجر (الحلقة 2)| عدلي شبيطة

متخطيا الكثير من المخاطر والمصائب والمتاعب وصل المدينة الكبيرة في ساعة مبكرة فجرا حاملا على كتفه متاعه. الجو رطب بلونه الرمادي يبدو كئيبا. الضباب كثيف، الشوارع شبه خالية الا من بعض المارة والمركبات التي تسير ببطء شديد. اسند ظهره متعبا منهك القوى على أحد اعمدة الإنارة هو يحدق بدوائر الضوء الضبابية الملونة الصادرة من المصابيح الأمامية للسيارات، ومن مصابيح الإنارة المعلقة على الأعمدة، خطفت نظره ومن التعب والإرهاق احس بالدوار. انه الدوار اللعين يلاحقه اينما حل...

شيئا فشيئا اخذت الشوارع وازقتها تزدحم بالمركبات والمارة، والمصلين المتجهين لصلاة الفجر في الجامع بعد الآذان. تعالت صيحات الباعة المتجولين، عبقت الروائح من المخابز والمطاعم. فأثارت شهيته ورغبته الشديدة للأكل من شدة الجوع. وضجت المدينة بجلبتها.

 راح الحموي يتسكع وهو يدور في شوارع وازقة المدينة واسواقها. اكثر ما أثار فضوله واستغرابه ذلك الزخم للوجود العربي الكثيف في المدينة، اينما جال بنظره يقع على لافتات مكتوبة بالعربية. المارة في السوق وفي الشوارع يتكلمون العربية، بلهجات مختلفة. اصحاب المحلات يدللون على بضاعتهم بالعربية. فتيات عربيات بعمر شقيقتيه، ونساء يصطحبن أطفالهن يستوقفن المارة طلبا للمساعدة. اولاد واطفال عرب بإعداد كبيرة يتسولون. واخرون يتسكعون دون هدف، احترفوا السرقة والاختلاس، منهم من يبيعون المخدرات ويروجون لها. احدهم عرض عليه مخدر "الشعلة " التي لم يسمع بها من قبل. واخر سأله اذا ما يرغب بفتاة جميلة بسعر رخيص، وأشياء أخرى...

انزل الحموي متاعه عن ظهره وجلس فوقها في مكان مرتفع يراقب ويتفقد الحركة في السوق، جلس يفكر مستاء مما آلت اليه أحوال الامة. أمة لم توفر ظروف العيش الكريم لأبنائها، ها هم امام عينيه يتجرعون الذل في الغربة. امة بأكملها قد هلكت، ولا عجب إذ هلكت! جهل، حروب، اقتتال، تشرد، ارهاب، نزوح، تسول وضياع!

 تذكر ما كان يسمعه من نقاش يدور في الندوات الأخيرة في مكتبة المرحوم والده، عن الربيع العربي والثورات والانقسامات وما نتج عنها من مآس. إذ كانت قضية فلسطين هي القضية الام، والمركزية في نقاشاتهم وأديباتهم واشعارهم. واليوم اصبح وطن بأكمله في نزوح، ضياع، وهلاك. أصبح الكل قضية. واصبحت شوارع الغربة هي البيت وهي الطريق. وبقي الجنون !

اخذ الظلام يلقي بظلاله على المدينة. أغلقت المحلات التجارية أبوابها، اظلم الليل وعمت العتمة الشوارع والأسواق التي خلت الا من الكلاب والقطط والجراذين. اكل ما التقطته يداه من بقايا خضروات في حاويات النفايات. شال متاعه على كاهله واخذ يطوف الشوارع يدور بحثا عن مكان يأويه. قادته قدماه بعد عناء وتعب إلى الحديقة، واستقر بها مطافه. في الحديقة لم يكن الحال يختلف عنما شاهده في الشوارع والأسواق. غصت بالمشردين من جميع الاعمار، عائلات بكاملها، رجال ونساء، مسنين واطفال، بنات واولاد. كلهم عرب. ما لفت انتباهه لاول وهلة هي أكياس النايلون التي تلمع بين يدي مراهقين، واطفال لا تتعدي اعمارهم الثانية عشرة او الثالثة عشرة. تبين له فيما بعد انهم يتعاطون مخدر الشعلة الذي انتشر بكثرة بين الأطفال والمشردين، لقد اتو به من مدن المصدر (شمّ الشعلة) هو الاسم المتعارَف عليه لتعاطي المخدر الناتج عن حرق مادة “لاصق الشعلة”، وهي ماده كيماوية يستخدم لأغراض اللصق. اذ يتم وضعه في كيس بلاستيكي وإشعاله، ثم يقومون باستنشاق الأبخرة الناجمة عن عملية احتراقه.  لها أثر شديد الخطورة في صحة الطفل الجسدية والنفسية، تدمر الجهاز العصبي للطفل وتؤدي إلى فقدان السيطرة والانتحار او الموت في كثير من الأحيان. "

 خائر القوى القى الحموي بمتاعه في زاوية من الحديقة، والقى بنفسه فوقها واستسلم للنوم مباشرة دون مقاومة. لكنه ما لبث أن استفاق فزعا على وقع صراخ، عويل وشجار. نظر حوله في استياء وذهول كأنه لا يصدق ما تراه عيناه من مشاهد عنف وشجار، شجار بالسكاكين والعصي والنبابيت. بين عصابات تتقاتل فيما بينها على مناطق نفوذ، وبين أفراد يتشاجرون على تقاسم الغنائم التى تم جمعها او سرقتها. غير قادر على استيعاب هذا الكم الهائل من القسوة، العنف والجريمة، جرحى ينزفون دما ملقون على الارض واطفال يتعاطون المخدرات، شعلة، حشيش، أبر وغيرها، وسكارى يترنحون، بأيديهم زجاجات الخمر. جيل بأكمله مبكرا يواجه مصائب الحياة. جيل خسر البيت وضل الطريق.

مرت الايام وتوالت الليالي عصيبة عليه في الحديقة. إلى ان اعتقد خاطئا انه قد وجد ضالته في مكان عمله الحالي في "قاعة الانس" يدور بين الزبائن كما يدور راقص التنورة حول نفسه، يضع الجمر على روؤس الاراجيل.

اخذ الحموي يشق طريقه للخارج وسط الزحام ليجلب المزيد من الجمر للمرة الكم ! بيده الملقط والوعاء. وها هو المشهد ذاته يتكرر امام عينه والجمل والمفردات ذاتها كالصاعقة تقع على مسمعه. وتلك " العاهرة المدام " نظير الشؤم، تقف وسط الزحام وفي عيونها دهاء ماكر، تمسك بيد فتاة قاصر تعرضها للمزاد، تبرز محاسنها وتعلن براءتها من العيوب. فتاة مسكينة، طأطأت رأسها ترتجف بخوف، وهي تذرف الدمع بصمت وحزن. بملامحها البريئة الجميلة استقطبت حولها كثيرا من الزبائن واثارت اهتمامهم، يرمقونها بنظرات وقحة، شرهة شهوانية. حتى اولئك التنابل لمعت عيونهم، يحدقون بها وهم يتململون في مجالسهم مسترخين ببين المساند.

وبدأ المزاد...! أعلنت المدام الثمن،

 ومن يزيد !؟

 اخذ السعر يرتفع رويدا رويدا، اشتدت المنافسة وساد التوتر في أجواء القاعة.

ومن يزيد...؟

وقف الحموي يلوح بوعاء الجمر عن غير وعي وبعصبية مفرطة كأن صورة الفتاة التي لم تفارق مخيلته مسته بنوع من الجنون وعشت بصره. إنها تذكره بشقيقتيه وتستحضر إلى ذهنه في لحظة، كل ما مر به من مآس خلال ثلاث سنوات، مشاهد تتراءى له. تتوالى في مخيلته منذ لحظة دخول المسلحين إلى بيتهم حتى اللحظة. اخذ يدور حول نفسه كمن فقد شيئا ما.

احس الحموي انه لم يعد في صدره متسعا لتحمل مزيدا من الذل والاهانة. وان ما توقعناه من ردة فعل حتمية قد تكون جنونية على وشك ان تتحقق. وتلك المشاهد والصور التي تمر في مخيلته ومن أمام عينية بسرعة مذهلة تستفزه، تزيد من غضبه ومن توتره. ولم يعد يثنيه عن القيام بواجبه تجاه تلك الفتاه أي اعتبار، بل من العار السكوت، مقتنعا بأن انتصاره لها انما انتصار لنفسه قبل كل شيء ولشقيقتيه عائشة وبيان اللتين لم تفارقاه للحظة ولكل المظلومين.

دخل القاعة وبيده وعاء الجمر والملقط وقلبه يخفق بعنف. ما ان وقع نظره على الفتاة وهي تبكي وتستغيث رافضة الانصياع لذلك التنبل المتخم القابض على معصمها بقسوة يحاول جادا جرها، والمدام تدفع بها من الخلف. يتصرفون معها كما لو يتعاملون مع دابه أحرنت ورفضت دخول الحظيرة. تستنجد وما من مغيث، لا احد في القاعة عنده نخوة او شرف وفي قلبه رحمة يحرك ساكنا. مستنكرا، رغم إيمانه وتدينه، التاريخ والعروبة والإسلام، كأنما كتب التاريخ والتراث خرافه كبرى فلا وآسلاماه ولا ومعتصماه... شل عقله عن التفكير، استولى عليه الدوار بشده هذه المرة حتى تطاير الشرار من عينيه، ولم يعد عنده شيء يخسره او يخشاه،

فاقد السيطرة على نفسه، اندفع بسرعة وجنون نحوهما وانهال بالضرب على رأس الأعرابي المنتفخ بوعاء الجمر، ثم التقط نرجيلة، أنزلها على رأسه حتي أوقعه أرضا. والتقط الثانية واسقطها بقوة وحزم ليكسرها فوق رأس المدام.. والثالثة والرابعة و.... يكسرها جميعها على رؤوس من تواجد حول المدام وعلى رؤوس التنابل المستلقين على الفراش واحد تلو الآخر.

 عمت الفوضى المكان، هرب من هرب وسقط من سقط، تطايروا تناثروا كأوراق الخريف فزعين في كل اتجاه. اختلط الحابل بالنابل وتعالت صرخات الاستغاثة وصيحات التوسل والاستجداء، عويل وبكاء، ودم ينزف غزيرا. تصاعد الدخان كثيفا يتفشى داخل القاعة والنار تلتهم الفراش بسرعة مذهلة من جراء الجمر المتطاير. جمع غفير يهزم أمامه، يفرون دون أي مقاومه. ولم يبق في القاعة سوى المصابين والجرحى مستلقين على الارض لا أحد يسعفهم.

 اخذ كريم الحموي بيد الفتاة، وهم للخروج من القاعة دون استعجال، واثق الخطى فخورا بنفسه مطمئنا غير أبه. لا يخشى أحدا. انها معركته الأولى التي خاضها بمفرده أمام جمع غفير وانتصر. وقبل أن يغادر المكان وقف في مدخل القاعة وهو منتش رغم التعب والخوف والإنهاك، يتأمل، يحدق فيما خلفه من فوضى ودمار بمشاعر مختلطة. اذ رأى أن عيني الفتاة ونظراتها تطفح بالعرفان نظرات شقيقتيه، فأنتابه شعور بالحزن والآسى والمسؤولية، متيقنا ان أمامه مهمات ومعارك كثيرة، أكبر، اصعب واهم قد تكون مصيرية.

 ليس فقط،

 أكثر ما حز بنفسه واشعره بالإحباط حد الاكتئاب ورغم انتصاره، منظرهم وهم يتدافعون كالقطيع هربا من امامه مهزومين، مأزومين، ضعفاء مهزوزى الإرادة، لا حيلة لهم ولا قوة. غير قادرين حتى من الدفاع عن انفسهم. رغم نعومة أظفاره متسائلا كيف افضى بهم الحال الى هذا الحد من الشلل الجسدي، الدماغي والنفسي ومن جبن، ذل وخمول؟ ولا عجب، انهم مخبولون، كيف لا، وهم لا يفرقهم عن زعمائهم في الدول التي قدموا منها شيء، انهم مسلوبو الإرادة محبطون خنوعون. غرقوا في الملذات متخمين همهم الوحيد الحفاظ على عروشهم الورقية فباتوا عبئا ثقيلا على شعوبهم، يخافون حتى من ظلهم. يستدرجون رعاياهم لمجرد مخالفتهم الرأي إلى القنصليات لتقطيع أجسادهم بغباء دون رحمة، ويبيعون أوطانهم من أجل الحصول على الحماية من الخارج مقابل المال..

 دوت صفارات الانذار من كل اتجاه وهرعت إلى المكان الشرطة وفرق الانقاذ. غادر المكان مسرعا ومعه الفتاة ليختفيا في أزقة المدينة الملتوية يدوران في الثنيات.

واصلا ركضهما في الازقة والمنحنيات المعتمة الخالية تماما، ففي سكنة الليل، والليل اوشك على ملامسة الفجر لا يسمعا الا صوت وقع خطاهم قاطعين مشوارا طويلا اعياهم التعب وارهقهم الخوف، جلسا، والفتاة ترتجف، يستريحان على عتبة أحد المحلات. حتى اللحظة، لم ينبس أحدهم ببنت شفة ولم يتكلم أحدهم مع الآخر،كل مع نفسه، في هذه الاثناء لاحظ الحموي في مدخل عمارة بوابتها الضخمة يمر بها دهليز يؤدي إلى ساحة من حولها محلات تجارية. دخل البوابة يتفقد عله يجد مكانا يقضيان به ليلتهم.

لا انجلاء الليل، ولا جلبة الصباح ولا حتي صوت الآذان الاتي من مكبرات الصوت المنتشرة بكثافة في المساجد القريبة ايقظهم من نومهم. المارة واصحاب المحلات احتاروا بأمرهم وهم يرمقونهم بنظرات الشفقة والإستغراب. شاب وشابة في مقتبل العمر ارتسمت على محياهم علامات البراءة والحزن يغطون في نوم عميق على الرصيف وسط الزحام، ما حذا ببعض المارة ترك النقود لهم.

استفاق الحموي مذعورا متألما من شدة الوجع في جانبيه من النوم على الرصيف. يجول بنظره خائفا، متوترا،لا بد أن الشرطة تبحث عنه وإن وجوده وسط الزحمة قد يكشف أمره. نهض ووقف على رجليه يتأمل الفتاة وهي مازالت مستلقية على الرصيف بجانبها بعض النقود. محتار ماذا يفعل بها. صراع بداخله، هل يتركها ويهرب من المكان لينقذ نفسه خوفا من أن تقبض الشرطة عليه ؟ ام يوقظها ويأخذها معه،لكن إلى اين ؟ وهل لديه القدرة على حماية نفسه أولا وحمايتها وتحمل مسؤليتها.؟ وقف محتارا بأمره مترددا يدور حول نفسه يهم بالذهاب،

يبتعد قليلا ثم يعود، يقف مترددا.. يبتعد ثم يعود....

 إنه لا يعرف من هي، ما اسمها من اين اتت وما هو مصيرها. إلى ان حسم موقفه بسرعة مقنعا نفسه قائلا، لقد أنقذتها لن القي بها الى المجهول.!!

 ايقظها من نومها. فتحت عينيها بوجهها الشاحب مربكة مذعورة خائفة ترتجف، منهكة، جائعة. أعانها على الوقوف وهما للخروج من المكان. لكنها بدت خائرة القوى تمشي ببطء شديد تترنح. في هذا الموقف انتابه احساس بالعجز والإحباط من قلقه عليها، يريد فعل شيء ما لا يعرف ماذا. بينما هو في حيرة من أمرة وقع نظره على لافتة معلقة أمام إحدى البوابات فيها صورة كبيرة لراقص التنورة الصوفية بطربوشه الاحمر. كتب تحتها باللغتين التركية والعربية،

 مركز جلال الدين الرومي الطريقة النقشبندية المولوية.

راق له الأمر فهو طالما شبه نفسه براقص التنورة وهو يدور في الشوارع وأثناء دورانه بين الاراجيل. قرأ على جانب الصورة.

" دع الحب يأخذك إلى الله. الله هو مركز الحب منه تنبثق انوار العشق لتنير عتمة القلوب."

وفي أسفلها كتب ساعات الدوام.

من الساعة :

17:00 لغاية الساعة ٠٠ 00:00.

 لننتظر، قال لنفسه. وهو لا يعرف حتى كم هي الساعة الآن ! اعان الفتاة على الجلوس على عتبة مدخل المركز وهي في شبه غيبوبة، قلق عليها محاولا جاهدا إبقائها على وعيها. وحالة لم يكن بأحسن من حالها، يأرقه الخوف والرعب يعتريه، عطش، جوع وألم. يحلم بجرعة ماء. خائف، كلما رآى رجل أمن أو شرطة يخفق قلبه وينحو بنفسه جانبا. لا يملك الا بعض القروش التي تركها المارة وهما نيام. تأمل النقود في كفه علها تكفي لشراء رغيف من الخبز. هم للذهاب ثم تراجع، ليس من الحكمة تركها لوحدها. ضاقت الدنيا عليه وطال عناؤها، انه في موقف من أصعب المواقف التي مر بها في سنوات تشرده. جلس بجانب الفتاة وضع رأسه بين يديه يفكر جاهدا عله يجد مخرجا لكنه لا يقوي حتى على التفكير كأن شللا اصاب دماغه. فجأة سمع صوت وقع خطى ثقيله تقترب وظل يخيم عليه ويد تهبط ثقيلة على كتفه. تسمر مكانه يرتجف من الرعب لا بد انها الشرطة قال لنفسه مستسلما وهو ما زال مطأطئا رأسه. ثم سمع صوت رجل يقول : "

إئذنا لي الدخول لو سمحتم." ثم استطرد متسائلا:" من أنتما وماذا تفعلان هنا.؟ "

رفع الحموي رأسه المثقل ببطء، واذا برجل بعباءته البيضاء وطربوشه الأحمر وقامته الطويلة بيده صرة مفاتيح يقف أمامه. نهض من مكانه واستقام أمام الرجل وقد احس ببعض الاطمئنان. آجاب الرجل باللغة التي خاطبه بها قائلا :

 " اسمح لنا يا سيدي، ارجو منك المعذرة "

 وأخذ بيد الفتاة يعينها على الوقوف ليفسح له المجال بالدخول. لكن الفتاة بدت اثقل من عزيمته.

وقف الرجل محتارا بأمرهما، وهو يمعن النظر في أسارير وجهيهما، وقد لاحظ في تعابير وجه الحموي، رغم الشقاء، مسحة جلية من الوسامة والرجولة والشهامة. وعلى معالم وجه الفتاة الشاحب براءة ممزوجة بالحزن والآسى. رق لهما قلبه ورأف بهما وفي قلبه شفقة ورحمة. اخذ بيد الفتاة وادخلهما إلى المركز، أجلسهما في المطبخ حول طاولة كبيرة مستديرة الشكل تتسع لعشرات الأشخاص. قدم لهم الماء وبعض الطعام. تركهما وانصرف لأعماله في المركز. في الداخل، البناء يتوسطه قاعة دائرية كبيرة عالية السقف محاطة بأعمدة رخامية ضخمة تصفي الاعمدة على القاعة قدرا كبيرا من الفخامة والرهبة. حولها مدرجات ومقاعد للزوار. بها تقام حفلات الرقص الصوفية ما يعرف برقصة التنورة. على جانبي القاعة دهاليز تؤدي إلى غرف وقاعات صغيرة. خصصت لحلقات الذكر والتوحد، للتعليم والحضرة. والموالد.

جلست الفتاة لا تحرك ساكنا، جلست في صمت إلهي مدو، عينيها المستنفرتان تحدقان في فراغ، منفصلة تماما عن واقعها. انها مازالت تعاني من هول الصدمة غير مستوعبة الاحداث الاليمة المتتالية التي تمر بها. حاول الحموي التحدث اليها والتواصل معها دون جدوى.

اضطر الحموي مرغما على اخفاء شخصيتهما الحقيقية عن الرجل، وقدم له الفتاة على إنها شقيقته وإن اسمها سوسن وقد عرف نفسه بمحمد جميل " على اسم والده " من مدينه حلب " بدل من حماة " وأنهما من بين القلة الذين بقوا على قيد الحياة في قارب اللجوء الذي أوشك على الغرق. أصبح اسمه من الآن فصاعدا محمد الحلبي ويعرف ب " الحلبي ". وكما عمل على اخفاء شخصيته كان لا بد من التخفي وتغيير ملامح وجهه ومنظره الخارجي. فهو اصبح مطلوبا للعدالة. ان ما قام به بألامس لأمر غاية في الخطورة ظهرت نتيجته في الصحف الصادرة في اليوم التالي. اذ تبين أن القاعة احترقت بأكملها وان عدد من الأشخاص لقوا حتفهم. حف " الحلبي " شعره وأطلق لحيته، خلع ملابسه القديمة ولبس العباءة ووضع العمامة على رأسه.

بعد أن أذن لهما، رأفة عليه وعلى الفتاة، البقاء في المركز مؤقتا، عمل الحلبي جاهدا على أن لا يغادره ليس مجبرا هربا من الشرطة او للتخفي، إنما اختيار. فبذكائه وقوة إرادته وجمال خلقه فرض وجوده واحترامه. لم تمر فترة طويلة حتي بدأت تظهر تغيرات على المركز وبدت لمساته، بمساعدة الفتاة، تظهر جليا في صيانة المركز، نظافته، ترتيبه وحتى ديكوره. ما لفت انتباه ودهشه القائمين على المركز ونال إعجابهم. وعجل من إنخراطه في الفعاليات والأنشطة وحلقات الذكر. دأب بشغف على قراءة الكتب والنصوص الصوفية، ليرتقي في سلم المراتب بسرعة لافتة. لكن موهبته الحقيقية برزت من خلال انضمامه إلى فرقه الرقص الصوفية " التنورة " التي أحبها وطالما حلم بها. ونظرا لبنية جسمه، بطوله ولياقته البدنية، وإرادته جاءت حركاته متناغمة فيها خفة ورشاقة وابداع وبراعة في الأداء، مفعمة بالمشاعر والاحسايس. إذ وجد في الرقص وهو يدور حول نفسه ملاذا آمنا من خلاله ينفصل عن واقعه ليحلق عاليا في شبه غيبوبة تنقل روحه إلى عالم الخيال ليذوب في حب الله.

اما الفتاة،" سوسن " بعد أن تعافت وتحسنت حالتها النفسية والجسدية انضمت هي الأخرى إلى حركات الذكر النسائية، واقتصرت حياتها على العمل في مشغل الخياطة التابع للجمعية ونشاطها في حلقات الذكر. عكفت على الصلاة والعبادة والصمت حليفها الدائم والغموض يكتنف حياتها. رغم احترامها وتقديرها وحبها العميق له الا انها لم تكشف بشيئ عن حياتها الشخصية. منطلق من ايمانها رغم حداثة سنها ان الحياة مجرد ممر إلى الاخرة. ويجب على الإنسان أن يستغل حاضرة في حب الله وعبادته. في نظرها لا شيئ حقيقة في حياتها الا اللحظة التي تعيشها وإن الماضي انقضى لم يعد له وجود ولا قيمة له والمستقبل ما هو إلا وهم مجهول وافتراضي.

ذاع صيت " الحلبي " في البلاد واخذت شهرته تزداد يوما بعد يوم ولمع اسمه في عالم الدروشة والرقص الصوفي من خلال ظهوره في احتفالات الأعياد والمناسبات الدينية داخل المركز وخارجه. كما في الموالد وحتى الاعراس الدينية. لم يكن الرقص بالنسبة له متعة وفرحا او كسبا للمال. إنما وجد فيه وسيله للخروج من واقعه بماضيه وحاضره إلى عالم غير عالمه إلى عالم الخيال والوهم والسكينة والتوحد مع الله. ما ان ينتهي من الرقص حتى يعود إلى واقعه يفكر بشقيقتيه عائشة وبيان.... يقف امام الحضور يتفحص بنظراته الخفية باحثا عنهما بين الجمهور يقص عليهم قصه اختفائهما على أمل الحصول على اي معلومة او رمز ما قد يساعده في حل لغز اختفائهما. عاده كانت تنهال عليه معلومات وقصص كثيره، يستمع، يدقق، يبحث ويحقق في كل معلومة، يجول البلاد طولا وعرضا ومعه سوسن لا تفارقه. في مخيمات اللجوء وفى الحدائق والأسواق وفي التجمعات دون كلل أو ملل ومرت الأيام وتوالت دون جدوى. في يوم من الأيام وقف امام الجمهور كعادته يحكي قصته. واذا بأمرأة مسنة تصرخ من بين الحضور :

 " إنها عأئشه اعرفها ".

 نفرت عيناه وفز قلبه يرتعد.

جلس "الحلبي" امام المرأة يتأمل تعابير وجهها مصغيا لحديثها بشغف حاد. حكت له أن أخا لها راهب في كنيسة بمدينة غازي عنتاب على الحدود السورية جاءها في يوم من الأيام، ليس كعادته، يطرق باب بيتها في ساعة متأخرة من الليل. كان الأمر غريبا جدا بالنسبة لها، خفق قلبها عندما سمعت صوته، كانت بصحبته فتاة ترتجف من الخوف في حالة يرثى لها، طلب منها أن تهتم بأمر الفتاة وإبقائها في بيتها لعدة ايام ريثما يتدبر امرها. مكثت الفتاة في بيت المرأة ثلاث ليال. خلالها عملت المرأة على خدمة الفتاة وتقديم المساعدة اللازمة لها. حاولت الحديث اليها والتقرب منها لكنها كانت مضطربة مصدومة منغلقة على نفسها. عرفت المرأة ان اسم الفتاة عائشة عمرها اربعة عشرة عاما وأنها فقدت عائلتها في البحر. وإن صاحب القارب باعها لامرأه تشتري القاصرات لتزوجهن مقابل المال أو ليعملن في الملاهي. وقد نجحت عائشة الافلات من قبضتها واللجوء إلى الكنيسة. بعد اربعة ايام عاد إلى بيتها لاب حنا واخذها معه إلى دير الزعفران " دير حنانيا " في مدينة مردين جنوب شرق الأناضول على الحدود السورية العراقية. وهي ما زالت تعيش هناك منذ حوالي ثلاث سنوات ونيف.

يمضي الوقت ببطء شديد هذه الليلة على الحلبي وهو يتقلب في الفراش " في انتظار الفجر ". انه عاقد العزم السفر إلى مدينة ماردين صباحا، لن يألو جهدا من اجل إنقاذ شقيقته. وقبل أن تلقي الشمس بأشعتها الناعسة على سطوح بيوت المدينة القديمة النائمة وأسوارها واسواقها الخالية. كان " الحلبي " قد جهز نفسه استعدادا للسفر وحيدا هذه المرة ليريح سوسن عناء السفر. فالمشوار طويل وشاق تقطع به الحافلة ١٥٥٠ كم في ١٧ ساعة متتالية. لكنها أصرت بإلحاح أن لا تتركه يسافر لوحده. لا بل إنها تخشى الابتعاد عنه والبقاء لوحدها. فالعلاقة بينهما أقرب إلى علاقة الطفل بأمه. فهو بالنسبة لها لاب والام لا تثق الا به.

 

(يتبع حلقة ثالثة وأخيرة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب