news-details

في ثلاثيّة البعث (2-2) | د. لينا الشّيخ - حشمة

قراءة تحليليّة سيميائيّة في رواية "جوبلين بحري" للكاتبة دعاء زعبي

يتشكّل معمار هذه الرّواية في زمنين أساسيّين: الحاضر والماضي. الحاضر هو الزّمن الخارجيّ، زمن الحبكة والحدث الخارجيّ الّذي لا يتجاوز بضعة أيّام قليلة، مقابل الزّمن النّفسيّ، والّذي يتميّز بالحركة الطّليقة نحو أفكارها وذكرياتها. وإذا كانت الرّواية ترتكز على الحاضر والماضي إلّا أنّها تقدّم إيحاءاتها برسم المستقبل الّذي تنشده. وهذا ما يتجسّد باختيارها لنهاية سعيدة رومنسيّة حالمة.

تبلغ عدد صفحات الرّواية مئتي صفحة. منذ الصّفحة الأولى حتّى صفحة 149 تتمحور في ليلة واحدة، هي ليلة رأس السّنة بين العامين 2019-2020. ولا يتجاوز الزّمن الخارجيّ في الصّفحات الخمسين المتبقّية عدّة أيّام قليلة من بداية عام 2020، حيث يميّزها كذلك قلّة الأحداث وكثرة المونولوج والاسترجاع. وهكذا فإنّ أبرز ما يميّز هذه الرّواية هو أنّ الكاتبة استطاعت ملء معظم صفحات الرّواية وهي لا تزال في ليلة واحدة. وقد كتبتها على شكل مونولوج ذكريات بآليّة الاسترجاع الفنّيّ.

تنهل الكاتبة متناصّاتها من التّاريخ والجغرافيا والموسيقى والأدب والأساطير وغيرها. وقد كان أبرزها برأيي التّناصّ مع غسّان كنفاني وفكرة "العودة" في روايته "عائد إلى حيفا"، فتكثّف فكرة العودة بموتيفات كثيرة. عاش كنفاني في يافا فدمشق، وكان صحفيًّا ورسّامًا، واشتهرت رسائله إلى غادة السّمّان السّوريّة. فتدمج الكاتبة هذه المعطيات في الرّواية على وجهين، بالتّصريح والتّلميح. تستوحي فكرة العودة وتدفع ميار لأن تكرّر عدّة مرّات بأنّها عائدة، وستعود حتمًا. فتتناصّ الكاتبة مع كنفاني في شخصيّة ميار؛ فميار من يافا، وتعلّمت مهنة الصّحافة وكتبت الرّسائل في الرّواية. مقابل دمج هذا مع شخصيّة حلا السّوريّة حيث تتناصّ بذلك مع دمشق والرّسم. فيكتمل التّناصّ هنا مع حلا الرّسّامة الدّمشقيّة. وكأنّ الكاتبة تتعمّد هذا التّكامل الوجدانيّ بين دمشق ويافا من خلال ميار وحلا في شخصيّة كنفاني. ومن جهة ثانية، يبدو أنّ الكاتبة تنتقم لميار الّتي عوقبت لذكرها كنفاني في امتحانها فتجعلها كنفاني روايتها. وإذا كانت العودة عند كنفاني تحمل معنى الاغتراب والفقد فإنّ الكاتبة تحقّق معنى العودة على الرّغم ممّا يحمله مفهوم العودة هنا من اختلاف في الزّمن والظّروف والواقع.

 

 فنّ الرّسائل: بين التّطهير والبعث

تبدأ الرّواية في ليلة رأس السّنة حيث تمكث ميار في شقّتها في برلين وحيدة، فتتزاحم عليها الذّكريات الموجعة لتجد نفسها تبادر إلى كتابة ثلاث رسائل لثلاثة أشخاص. وبين رسالة وأخرى تقفز قفزاتها الشّعوريّة بحركة الوعي الحرّة إلى ذكريات الماضي. في هذه اللّيلة المفصليّة تنشطر ذات ميار بالحزن والغضب والغربة والفقد، فترفض الاحتفال لأنّه لا احتفال دون حلا. ويستفحل شعورها بالانتقام من سارة كلّما تذكّرت حلا. فيشتدّ حزنها ويستفحل إلى أقصى مستوياته التّراجيديّة حتّى يمسي سيّد هذه اللّيلة، متآمرًا عليها مع كلّ مفردات القهر والألم والغياب والوحدة والحنين. وحتّى تحقّق الكاتبة فكرة البعث والعودة كان عليها أن تدخل ميار في تجربة الحزن لتفجّر براكين دمعها، وكي تنشقّ عنها حالة من التّطهّر والانعتاق، لتتبعها المرحلة الثّانية من التّطهّر عبر كتابة الرّسائل الثّلاث، ثمّ تأتي المرحلة الثّالثة بالاستماع للموسيقى. وعند انتصاف اللّيلة بالضّبط تبعث الرّسائل. وببعث الرّسائل تبعث العودة. فمن عتمة هذا اللّيل سيولد الفجر ويتحقّق البعث.

تخوض ميار إذًا تجربة وجدانيّة كان موت حلا محفّزها. تصل حدود المأساة الّتي تستدعي التّطهير كما عند أرسطو. فقد آمن أرسطو بأنّ التّراجيديا تعمل على مداواة النّفس البشريّة وتطهيرها. وهو التّنفيس والتّطهير الّذي تحدّث عنه فرويد في نظريّاته في التّحليل النّفسيّ كذلك. لهذا كانت ميار بحاجة إلى التّنفيس وتنقية الرّوح من أحزانها وغضبها. فبعد البكاء يكون التّطهير بالفنّ كما عند أرسطو. والفنّ هنا بالقلم وكتابة الرّسائل والموسيقى.

تصيب الكاتبة حين تدفع بطلتها إلى هذا الكمّ من الحزن الممهور بالغضب، ثمّ تدفعها لكتابة الرّسائل. فسواء كان هذا بوعي منها أو لا، فقد حقّق لميار فعل التّطهّر والانعتاق، فالنّموّ والشّفاء، فالبعث والعودة. ولهذا تكتب ميار ثلاث رسائل لثلاثة أشخاص شكّلوا حياتها: سارة، حلا ونديم. فلا قيمة لهذه الرّواية دون هذه الرّسائل. في كتابة الرّسائل بوحٌ ومكاشفةٌ وبعثٌ للغياب وتحرّر من القهر والألم. والكتابة ذاتها واقعٌ حرٌّ. ولأنّ الكتابة إثبات للوجود وتفريغ للغضب وتطهير للقهر تكتب ميار رسالتها الأولى لسارة. تكتب لها لأجل كلّ هذا، ولأجل أن تزفّ انتصاراتها أيضًا. ولأنّ رسالتها مكتوبة وليست محادثة شفهيّة فإنّها ستكون أشدّ صراحة ورسوخًا وأثرًا على سارة. لذا تطلب ميار منها: "احتفظي بها. أعيدي قراءتها، قلّبي حروفها على مهل"(ص10). كما أنّ استخدام الضّمير المتكلّم المباشر "أنا" إثبات لجرأتها وتعزيز لوجودها، مثلما هو إدانة ومحاسبة على مصادرة صوت ميار وحقّها بدراسة الصّحافة والتّعبير عن رأيها بحرّيّة.

ولأنّ الكلمة استحضار للفقد تكتب رسالة لنديم تستحضر فيها الحبّ وتبعثه من ماضيه على أمل أن يعود، وهو يعود فعلًا في النّهاية. فقد بعث نديم رسالة في اليوم التّالي، اليوم الأوّل من العام الجديد، يجدّد فيها حبّه لها ويؤكّد إخلاصه. في رسالتها لنديم مكاشفةٌ رومنسيّةٌ تبوح بالحبّ والاشتياق وترفض النّسيان. تعترف بأنّها تعبت من ادّعائها بأنّها تلك "القويّة الّتي لم تقهرها ظروف ولم يهزمها زمن"(ص132). في هذه الرّسالة اعترافٌ واضحٌ ضدّ كلّ ممارسات النّسيان، فهو نديم "الحبّ الوحيد" الّذي تملّكها(ص132)، والّذي تكتمل به ولا تكتمل مع غيره. وبهذا الاعتراف المتمرّغ بدمع اللّوعة تؤكّد هزيمتها أمام الحبّ الّذي لا ينفكّ ينبض في فؤادها، معترفة بفشلها في الاستمرار دونه. تعترف أنّ افتقادها له كافتقادها "لرائحة وطن وأهل"(ص131)، فمعه عرفت "طعم الأنوثة"، ومعه ذاقت "طعم الهزيمة والانتصار"(ص133). لذا تقول في نهاية الرّسالة: "نديم.. سقط المنطق عندما قرّرت الكتابة لك"(ص133). يسقط المنطق بفعل كتابة الرّسالة. هذا السّقوط ليس سقوطًا بمعنى النّهاية، بل إنّه سقوط يحمل بداية جديدة مثلما ستكشف لنا الأحداث لاحقًا. هو سقوط منطق المكابرة ومعاندة الحبّ. تحاسب نفسها وتتّهمها بالحماقة حين تخلّت عن حبّ حياتها. فطوال خمسة عشر عامًا في الغربة حاولت ميار إنكار هذا الحبّ وادّعاء البطولة في النّسيان لكنّها تكتشف أنّها لم تكن سوى "حمقاء"(ص132). وفي سقوط حبر الحبّ على الورق تكون محاسبة الذّات ومكاشفتها. في سقوط الحبر يكون الاعتراف؛ الاعتراف بالحبّ، والاعتراف بالهزيمة. إذًا هو سقوط من أجل الصّحوة من حالة النّسيان والإنكار ثمّ التّطهّر. وفي ردّ نديم لها يكون بعث الحبّ وغفران الفراق. في ردّه لها تتحرّر ميار من أسر الاغتراب وألم الغربة.

أمّا الرّسالة الثّالثة فتكتبها لحلا بدمع الشّوق والفقد، رغم إدراكها بأنّها في عالم الأموات. فبالكتابة تستحضر حلا من الموت والغياب. هي محاولة لإدراك العالم الغيبيّ، عالم الموت. فالكتابة حضورٌ. وبالذّكريات تستعيد ما فُقِد منها وما غاب. وبالكتابة لحلا تتطهّر من حزنها ومن حالة الفقد والإنكار كذلك. تخاطبها مباشرة وبضمير المتكلّم فتتجاوز المسافات بين الأحياء والأموات. كانت الكتابة بالنّسبة لميار محاولة للاقتناع بفقدانها بعد أن حاولت لشهور طويلة إنكار غيابها وفقدها: "أخبريني بربّك كيف أقنع نفسي بأنّك صرت جزءًا من ذاكرة وتراب"؟ مارست طقوس النّسيان علّها تستطيع استيعاب غيابها لكنّها فشلت(ص135). إذًا في الكتابة اعتراف واقتناع بحقيقة الموت. في الرّسالة تطهّر من الحزن، تقبّل الفقد ثمّ الوعد بأن تبقيها حيّة تعيش في ذاكرتها وقلبها.

أمّا ما يؤكّد أنّ ميار تستخدم فعل الكتابة كفعل تطهير، لا كفعل تواصل فحسب، أنّها تكتب لحلا الميّتة، أي تكتب مونولوجها لا لتقرأ، بل لتعالج ذاتها المهشّمة وتحرّرها من سطوة الحزن عليها كذلك. وكأنّها تستجيب لميثاق الفكر النّسويّ الّذي ينادي المرأة بأن تكتب نفسها.  ورغم أنّ الرّواية ليست بوحًا نسويًّا صارخًا بقدر ما هي بوح سياسيّ فيه المرأة معادل سياسيّ للوطن إلّا أنّ ميار حين تدفعها الكاتبة للكتابة تستفيد من فعل الكتابة نفسه لما في الكتابة من بوح وتطهير وتحرّر. وإذا قصدت الكاتبة بكتابة الرّسائل التّناصّ مع غسّان كنفاني فقد أحسنت بناء روايتها وارتكازها على الرّسائل، لأنّها حقّقت، بوعي منها أو بلا وعي، الانعتاق والخلاص لبطلتها.

مع رسالة حلا الثّالثة تنهي ميار رسائلها فتقرّر الاستماع للموسيقى في الوقت المتبقّي قبل انتصاف اللّيلة. في هذه المرحلة الأخيرة من التّطهّر ترتقي ميار نحو الصّفاء الرّوحيّ. تستمع روحها للموسيقى فتبلغ الخلاص وتخلع عنها عتمة الحزن، تنعتق من براثنه وتسكنها راحة نفسيّة تجعلها جاهزة للسّموّ نحو نور فجر جديد، وحتّى تتهيّأ للقادم. والقادم هو معركة بطولتها في المؤتمر؛ معركتها الأخيرة في الغربة قبل العودة، فيها ستحقّق آخر انتصاراتها. هكذا تجهّز الكاتبة ميار للعودة؛ تنقّيها لبعث الحبّ من خزائن الماضي، بعث السّعادة والاكتمال بالعودة إلى حضن نديم ويافا.

 

 جوبلين في رموز وأرقام

في البعد السّياسيّ لا بدّ من طرح السّؤال: "لماذا برلين؟". ألمانيا هي وجع سارة ووجع شعبها اليهوديّ وظلمه في ظلّ النّازيّة. وقد قرّرت الكاتبة أن تذكّر سارة بآلام شعبها، فتأخذ سارة إلى جامعة برلين لتلتقي بميار. هناك ستستمع من جهة إلى قصّة نجاح ميار الّتي رأت بها سارة يومًا صحفيّة فاشلة. ومن جهة ثانية، تذكّرها بآلامها لعلّها إذا تذكّرت تتذكّر آلام الشّعب الفلسطينيّ فتضع نفسها محلّه. ولهذا تقول: "تودّ لو تلتقيها لتنصحها بأن تنظر في المرآة ولو لمرّةٍ واحدة ربّما ساعدها ذلك في إدراك أهمّيّة أن تكون في الطّرف الآخر من المعادلة"(ص119). هي تريدها أن تتذكّر شعبها اليهوديّ حين كان في طرف المظلوم والضّحيّة علّها تدرك مشاعر الفقد والغياب والألم الّتي يعيشها الفلسطينيّون.

يؤكّد هذا رمزيّة العام الّذي بنيت فيه جامعة برلين حيث سيكون اللّقاء بين ميار وسارة. وهو عام 1948، عام النّكبة: "صرح تعليميّ سيبقى عام إنشائه تاريخًا يرافق نكبة شعبها"(ص46). تصنع الكاتبة من هذا الرّقم مفارقة تاريخيّة مفصليّة، وتأتي بسارة إلى هنا لتسمع صوت ميار الّذي حاولت سارة نفسها كتمه قبل خمسة عشر عامًا، "فللأقدار يدٌ سخيّةٌ تعرف كيف ترتّب الأحلام والأرقام وتصفّي الحسابات"(ص46).

تكثّف الكاتبة من ألفاظ العودة ومشتقّاتها فتجعل منها موتيفات كثيرة. ولمّا كانت العودة بالنّسبة للكاتبة بعثًا فإنّها تكثّف من فكرة البعث والقيامة وتجسّدها بموتيفات كثيرة أيضًا، تلميحًا وتصريحًا. فلم يكن عبثًا أن تجعل الكاتبة الرّسالة الثّالثة موجّهة لحلا. فثلاثة رمز القيامة والبعث. وتتأكّد هذه الدّلالة بما قام به أصدقاء ميار في هذه اللّيلة بإرسالهم إليها باقة من التّوليب البنفسجيّ تعبيرًا عن محبّتهم، ومحاولة منهم لاستحضار صديقتها حلا في ليلة الفقد هذه. فالتّوليب البنفسجيّ هو ما اعتادت حلا توزيعه على أصدقائها في ليلة رأس السّنة من كلّ عام. والبنفسجيّ يرمز، إضافة للنّسويّة والملوكيّة، للولادة والبدايات الجديدة والفصح. والفصح هو القيامة. وإرسال التّوليب بعثٌ لحلا حتّى تخفّف من وحدة ميار، وإيحاء تمهيديّ لما سيحدث لاحقًا من بداية جديدة وعودة. وتتأكّد دلالة البعث الّتي تحملها حلا بموتها في الرّبيع، فالرّبيع هو القيامة وبعث الحياة.

يتكرّر الرّقم "ثلاثة" عشرات المرّات، إمّا بلفظه الصّريح أو بالتّلميح أو بمضاعفاته، فيشكّل موتيفًا هو الآخر، كثلاث مرّات رسبت ميار في امتحانها فتشكّلت لها لجنة مكوّنة من ثلاثة أعضاء شكّلوا مصيرها بين ثلاثة أزمنة: الماضي الحاضر والمستقبل، في ثلاثة أمكنة: يافا ودمشق وبرلين. فتحققّ ميار ثلاثة ألقاب بجدارة. وحين تبادر إلى كتابة الرّسائل تكتب ثلاثًا لثلاثة أشخاص. وحين تكون على موعد مع الانتصار على سارة والتّصريح بالحقّ يبقى لها "ثلاثة أيّامٍ فقط"(ص164). ويكون ذلك في المؤتمر في جامعة برلين الّتي يتكوّن شعارها من ثلاث كلمات: "الحقيقة والعدالة والحرّيّة"(ص179). هي نفسها المفردات الّتي جعلتها ميار ركيزة رسالتها في الحياة وعنوانها. كما كان بعث ميار واكتمالها في ثلاثة: مع الحبيب، وفي يافا/ الوطن، وأمام البحر. لقد حرصت الكاتبة على أن تكون ميار دومًا جزءًا من ثلاثيّة ما أو محاطة بها، كدلالة للبعث؛ البعث الّذي يعني العودة واكتمال السّعادة وتغيير الواقع وبناء المستقبل.

 

ولمّا كان الرّقم ثلاثة رمزًا للقيامة والبعث فإنّ لون الرّقم ثلاثة هو الأصفر. والأصفر نور. والنّور شمس وأمل. وهذه موتيفات تكرّرها الكاتبة بكثافة وتصبّ في مصبّ دلالتنا. والأصفر يعيدنا كذلك إلى تفّاحة بروفيسور شفارتس الّذي آمن بالحياة مناصفةً وبتحقيق العدل والحقّ. ولعلّنا هنا نستذكر رمزًا رقميًّا آخر، وهو من مضاعفات الثّلاثة كذلك، تعمّدت الكاتبة توظيفه وهو الرّقم ثمانية الّذي حمله مقعد ميار في طائرة العودة إلى يافا، ثمّ الرّقم أربعة الّذي كان من نصيب مقعد سارة في الطّائرة نفسها. ويأتي الجمع بين الثّمانية والأربعة بين ميار وسارة رمزًا للثّمانية والأربعين مع ما يحمله من أبعاد سياسيّة. ولمّا تعمّدت الكاتبة توزيع الرّقمين على ميار وسارة في الطّائرة نفسها إلى الوطن نفسه فإنّها تؤكّد ضرورة فرض حسابات جديدة على الواقع، وضرورة تعزيز واقع منصف عادل كالّذي يمثّله بروفيسور شفارتس.

تقودنا فكرة العودة إلى السّؤال: "لماذا لم تتذكّر ميار يافا في ليلة الحزن، ولم تذكر ما ذكره لها العمّ أبو شاهين من تاريخ يافا العريق رغم أنّ معظم مونولوجاتها واسترجاعات ذاكرتها تمّت في هذه اللّيلة؟ لماذا تحدّثت عن عراقة يافا وجمال ماضيها فقط في اليوم الأوّل من العام الجديد؟" من الواضح أنّ الأمر لم يكن اعتباطيًّا ولا عفويًّا، بل يوحي إلى أنّ يافا الجميلة ذات الهويّة العربيّة ليست من ذكريات الماضي والغربة والحزن فحسب، بل هي الماضي والحاضر والمستقبل. تتجدّد مع ميلاد عام جديد، ويتجدّد ميثاقها مع تجدّد الحبّ والعودة إلى نديم. وهذا إيحاء إلى أنّها ستعود إليها وإلى بحرها. فتنهي الكاتبة روايتها، بعد أيّام قليلة، بمشهد ميار متعانقة مع نديم أمام البحر لتجسّد "الثّلاثيّة"، كمشهد العاشقين أمام البحر في لوحة الجوبلين الّتي نسجتها والدتها وعلقتها على جدار بيتهم. هكذا تنهي الرّواية بجوبلين متفائل حالم، وبغد مرسوم بالعودة إلى الحبيب والوطن، منسوجة بالتّحدّي والانتصار وتحقيق الذّات وأرقى درجات العلم، فتعود ميار وتمسي عروسًا تنتظر زفافها. في هذه اللّحظة وأمام البحر يطلب نديم يدها ويعلنها زوجة له، لتكتمل سعادة ميار بالحلم بإنجاب ابنة تسمّيها حلا، كي تتذكّرها دومًا مثلما وعدتها في الرّسالة. كانت ميار بحاجة لأن "تتذكّرها وتذكرها طوال الوقت وكأنّها بذلك تحييها، تبعثها من جديد"(ص113).

وعليه، تدرك سارة أنّ القلم سلاح طويل الأمد فتخاف صوته. وتدرك ميار أنّه أداة لتوثّيق الحقيقة والوجود فلا تتنازل عنه. وتدرك الكاتبة كلّ هذا فنرى القلم مرسومًا على غلاف الرّواية الأبيض، رفيقًا للمفتاح رمز النّكبة والنّزوح. والأبيض رمز آخر للتّطهير وصفاء الرّوح. وبرلين كانت قدرًا أبيض لميار(ص13)؛ فهناك حقّقت أحلامها وأعادت بناء مستقبلها وصاحت بقلم الحقّ. تدرك الكاتبة أنّ الكتابة سلاح الأقلّيّة في ظلّ واقع يهدّد بقاءهم. فبالقلم تأتي بالغياب لتجعله حضورًا. بالكلمة تحفظ ما قد يسقط في الغياب، فتضع الذّاكرة والتّاريخ والهويّة في حضرة الذّكرى والوجود. بوح الكاتبة عن يافا وثيقة وحفظ للذّاكرة؛ ذاكرة شعب لم يبقَ له إلّا أن يوثّق تاريخه ووجوده بالحكي والكتابة.

وأخيرًا، مبارك للكاتبة هذه الرّواية. مباركة هي قفزتها النّوعيّة الإبداعيّة الواضحة بين مؤلّفها الأوّل "خلاخيل" وبين هذه الرّواية، فإلى المزيد من الإبداع. (انتهى)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب