news-details

قراءة في قصيدة (جبل الباروك) لشوقي بزيع 

في الأسبوع المُنصرم صادفت الذكرى السنويّة الثّانية والأربعون لرحيل المُعلّم الشّهيد كمال جنبلاط 1917 -1977، وقد سُلّطَت الأضواء في وسائل الإعلام اللبنانيّة على هذا الحدث، وبشكل خاص على قصيدة:جبل الباروك للشّاعر اللبناني: شوقي بزيع، وغنّى مقاطعَ منها الفنّان مرسيل خليفة، وهذا ما حملنا للعودة لهذه القصيدة المطوّلة (ستّين بيتاً)، كسنوات عمر المعلّم،

 

في الأسبوع المُنصرم صادفت الذكرى السنويّة الثّانية والأربعون لرحيل المُعلّم الشّهيد كمال جنبلاط 1917 -1977 والشّهيد غنيّ عن التّعريف، وكما يقول المعروفيّون: زِوّادْتو ماكْنِة الله يرحمو!، وقد سُلّطَت الأضواء في وسائل الإعلام اللبنانيّة على هذا الحدث، وبشكل خاص على قصيدة:جبل الباروك للشّاعر اللبناني: شوقي بزيع، وغنّى مقاطعَ منها الفنّان مرسيل خليفة، وهذا ما حملنا للعودة لهذه القصيدة المطوّلة (ستّين بيتاً)، كسنوات عمر المعلّم، أسمح لنفسي أن أسمّيها ملحمة شعريّة ، لأنّها تروي بعضاً من تاريخ شعب عربيّ أبِيّ، إلى جانب التّضاريس والمعالم الجغرافيّة والتّاريخيّة والتّضمينات البلاغيّة، الصّوفيّة، الفلسفيّة والرّوحيّة والعقائديّة معاً.

 قبل أن نخوض غمار هذه المداخلة، أرى من واجبي التّعريف بهذا الشّاعر الصّادق:هو من مواليد عام 1951 بلدة:زِبْقين اللبنانيّة، قضاء مدينة صور، وتبعد عنها شرقاً 17 كم، عدد سكّانها نحو4000 نسمة، ، أصدر الشّاعر ثمانية عشر ديواناً شعريّاً، إلى جانب كتابَين نثريَّين:أبواب خلفيّة 2005 ، هجرة الكلمات 2008 ، هو مُعلّم، محاضر، إعلامي وشاعر مُجيد من أتباع مدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي.

*جبل الباروك، قصيدة رائيّة، تطفح بالمعاني والقِيَم والمشاعر الوطنيّة والأمميّة، بها صور تشبيه بليغ، يحذف الشاعر عمداً أداة التّشبيه ووجْهَ الشّبَه، وحتّى المُشَبّهَ نفسه، فَيُشَبِّهُ جنبلاطَ بجبل الباروك اللبناني 2222 م عن سطح البحر، وبنهر وبلدة الباروك والأرز الشّامخ ينوء بثلجه النّاصع كالعمائم المعروفيّة، فيقول في مطلعها:

أيَّ القصائدِ هذا اليوم أدَّخِرُ  أمُتَّ حقّاً؟إذن فالقلبُ ينحسرُ

وَأيَّ شِعرٍ أقولُ، الشّعرُ يسبقني  إليْكَ والكلماتُ السّود تنتحر

نترك الشّاعر مع خفقات القلب وانهمار الذّكريات، الهموم، السّقوط، وغزالة الشّوف المذعورة، عرائس الكلمات، وعورة الطّريق بعد الاستشهاد، الجَمْر الكاوي، نجوم الأرض، الدّم الطّاهر النّقي المراق، ليصعد بنا إلى قَمم الباروك الشّامخة بأرزها وأهلها وكمالها ليقول:

كأنّما جبلُ الباروك أذْهَلَهُ/ أن تنحني، فمشى في يومك الشّجرُ

وها هو يناجي الأرزَ الحزين المُلتاع:

والأرزُ أفْلَتَ مِن حُرّاسه ومشى/ وفي ثناياه من جرح الرّدى خَدَرُ

 * تضاريس الوطن العربي مألوفة للشاعر والمُعلّم وللأحرار معاً

يُعرّج على نهر بردى السّوري العريق، طوله 71 كم ، يروي ويُنَقِّهُ دمشق الشام والغوطة والضّواحي، مُبتدِئاً من الزّبداني وسلسلة الجبال السّوريّة، شمال غرب العاصمة، وتتفرّع منه ستّة فروع يساراّ ويميناً:يزيد، ثورا، المزّاوي، الدّيراني، قنوات، وبانياس، وعن الثّمار والخضار هناك، فحدّث ولا حرج.

 كأنّي بالشّوقي الجديد درس تجربة الوحدة بين القطرَين الشّقيقين: مصر وسوريا 1958 -1961 / الجمهوريّة العربيّة المُتّحدة في عهد الرّئيسَين القوّتلي وناصر وببركة الكمال ، فيقول شاعرنا عن نهر النّيل، أطول أنهار العالَم(6650 كم)، يخترق إحدى عشرة دولة إفريقيّة(دول حوض النّيل)، بفرعَيه الأزرق والأبيض حتى يتَحدا في مدينة الخرطوم، والكلام هنا لِبزيع مخاطباً الجنبلاطيّ:

لمّا هويْتَ هوى من برجه بردى  وبانْكساركَ كان النّيل ينكسر

ولا ينسى المشرق والمغرب العربِيَّين الصابرَين الجريحَينّ:

والمشرقُ العربيّ الحزنُ يغمره   عليْكَ، والمغرب الأقصى به كَدَرُ.

وعودة الى الإمام علي بن أبي طالب، أبو الحسن، كرّم الله وجهه(599 -661 م)، وفي معركة صفّين، شمال سورية/قرب الرّقة وعلى شاطئ الفرات الغربي، عام 37 للهجرة والتّحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وكاد النّصر يكون من نصيب أبي الحسن، فرُفِعت المصاحف احتيالاً ودهاءً، قال أحد المحاربين: رضينا بكتاب الله تعالى، فقال عليّ جملته المُدوّية حتى يومنا هذا: كلمة حق أريْدَ بها باطل! كما توقّف الإمام أمام كنيسة بالذّات، قال له أحد أتباعه: طالما عُصِيَ الله ها هنا!

-أجاب عليّ على الفور:طالما عُبِدَ الله هنا!

أما شوقي فيربط بين المَقتَلين والشّهادتَين، قاتل عليّ هو عبد الرّحمن بن ملجم، أما قاتل المعلّم فما زال مجهولاُ، وهناك أكثر من جهة مستفيدة من الغَدْر، بعيداً عن الرّئيس حافظ الأسد! فقال شوقي مُستبدلاً قول الهلال الخصيب بهلال جياع الأرض عمداً:

هذا عليٌّ يُصلّي فوق مسجده  فيا ابنَ مُلجم!إضربْ فإنّهُ قَدَرُ

واغْمدِ السّيفَ حتى العمقَ في جسدي  هذا هلالُ جياعِ الأرض لو نظروا

 *الهلال الخصيب/هلال الجياع، تماما كما استُبْدِل اليمن السّعيد بالشّقاء والبؤس وسفك دماء أهله، صار الخصيب مرتعاً للجوع والفاقة والقهر، بتكالُب العيون الغريبة والعربيّة الحاسدة عليه.

وينقلنا الشّاعر للبنان التّعدّدي الحضاري ، والرّوحانيّات والاحتراب العبثي، والخسائر البشريّة والمادّيّة، وما كان عام1977، ما زال ممتدّاً حتى اليوم في هلال الدّم والكنانة والمشرق والمغرب، فيقول شوقينا الحَيّ:

أرضَ الخسارةِ يا لبنان، هل رجلٌ /يُعيد للناس، بعد اليوم ما خسِروا

كأنّما المُدافعُ عن حُرّيّةٍ سُلِبَتْ / وراح قنديلها في الأفق يحْتَضِرُ

ثمّ يناجي الشّاعرُ ذاك الجنبلاطي قائلاً:

أبا الوليد، إذا لبنانُ أرْهَقَهُ / طُغاتُهُ، فَبِكَ الآمالُ تُخْتَبَرُ

*يعيد الشّاعر إلى أذهاننا ما عاناهُ السّيّد المسيح عليه السّلام في الجُلْجُلة(الجُلْجُثّة)، درب الآلام، كنيسة القبر المقدّس، كنيسة القيامة، قبر السّيد المسيح(ع) داخل الأسوار والصّلْب، ثمّ القيامة من بين الأموات في اليوم الثّالث، يقول البزيع:

جعلتَ نفسَكَ للآلام جُلْجُلةً/ وَرُحْتَ للظَمَأ الأرضي تنتصرُ

بنيتَ مجدَكَ أعلى من هياكلهم/ وما اغْتَرَرْتَ، ولم تسكَر بما سكروا

واذا كان الجنبلاطي من تلاميذ المسيح وبوذا وبلوهر والرّسول وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وعلي وأبي ذر زُهداً واعتكافاً وَتِرَهُّباً، داخلاً صومعة العربيّة من أبوابها المُشرعة، بقول فيه شوقي:

وَكُلُّ ما فتنَ الفانين من جشع/ زَهِدْتَ فيه، فلا مالٌ ولا سرر

 تفتّحتْ لكَ أكوانٌ مُحَجّبةٌ/ خمورها من شغاف القلب تُعْتَصَرُ

وكيف تَتَّخِذُ الألفاظُ وجْهتها/ وأنتَ مُبْتداُ الألفاظ والخبرُ

*ثم ينقلنا الشاعر الى مهد الفلسفة اليونانيّة سقراط الحكيم(469 -399 ق م)، حيث المثاليّات تنتمي لعالَم لا يستطيع فهمه إلاّ الإنسان الحكيم، والحياة لا تستحقّ الاعتبار إن لم نقوّمها بالحوار، يقول شوقي:

ففيكَ حكمةُ سقراطَ التي هَزِئَتْ/ بالموت، والقِيَمُ السّمحاءُ والكِبَرُ

*يعيد الشّاعرُ إلى أذهاننا الحلاّجَ/الحُسين بن منصور، كأنّني بالشّوقي البزيعي، تيمّناً بأمير الشّعراء، والفعل بَزُعَ-بزاعة: صار ظريفاً، والبزيع الْلَبِق والسّيّد الشّريف، ونقول في عامِّيّتنا المَنْسِيّة الفصحى:فرجينا بَزَعَكْ (شَطارْتَكْ)، الشّاعر يستحوذ هذه الصّفات ويسبغها على باروكه، أرزه الشّهيد، كأبي مغيث الحلاّج ابن الحُسين 858 -922 م، الصّوفي المصلوب جوراً: هُما ركعتان في العشق الإلهيّ ، لا يصحّ الوضوء بهما إلاّ بالدّم ، والقائل شعراً :

 كُلُّ حُبٍّ)(حَشْوَ) قلبي  غير حُبَّيْكَ، حرامُ

 أنتَ لي روحٌ وَراحُ   (أنتَ)زَهْرٌ وَمدامُ

 وسرورٌ وهُمومُ      وَشِفاءٌ وَسقامُ

فَعلى كُلِّ هوىً بَعْ-------دَ هوىً فيكَ سلامُ

أمّا شوقينا الجديد فيقول في مُعَلِّمه معلّمنا:

وَفيكَ من صورة الحلاّج صرختُهُ/ضِدَّ الطُّغاة، وما أفْتَوا، وما هدروا

 

*بلدة المُختارة وهي ليست محتارة، رغم ما يخالجها أحياناً بعض غليان وقلق داخلي، نرجو أن تبقى عريناً للثوّار والأحرار، تشمخ علوّاً فوق سطح البحر بقممها ومرتفعاتها ما بين 850 -1000 م عن سطح الحر، لها أمجادها وتاريخها ومكانتها الاجتماعيّة السياسيّة، وعلى بُعد 6 كم منها تقع بلدة بيت الدّين التي كانت مركز القائمقاميّة، عاصمة الشّهابيّين في القرن التّاسع عشر، قصرها ما زال شامخاً، وهو المقرّ الصّيفي لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، تبعد 40 كم عن العاصمة بيروت، عدد سكّانها أكثر من عشرة آلاف نسمة، والجنبلاطي يرمقُ جلاّديه مرتفعاً:

وأنتً ترمقُ جلاّديكَ مُرتفعاً/ فوق المنايا، وَتَعْليهم، وقد صَغروا

رأيتَ فيها دليل السّالكين إلى/ (مختارةِ) الرّوح، واللغزِ الذي سبروا

على يمينكَ (بيتُ الدّين) يرفعها/ نُسّاكها حيثُ تدنو أنجمٌ غُرَرُ

هذا الكمال الباروك الشّامخ المتواضع النّاسك آخى بين الرّسالات السّماويّة والأديان والمناهل الفكريّة معاً، لا إكراهَ في الدّين، وقال أحدهم: أنّى لأبناء الطّين لأن يفهموا أبناء اليقين!وهنا قال شوقي:

هناكَ حيثُ اليقينِ الصّرف يبلغُهُ/ المُوَحِّدونَ، فلا شكٌّ ولا حَذَرُ

 وحيث تَتّحد الأديان في المُثُل/ العُليا، وفي نقطة التّكوين تنصهر

 ويمضي الشّاعر مع الفيلسوف قائلاً:

 ورُحْتَ تفترِع الرّؤيا على قِمم/ صوفيّةِ الحَدس، لم يحلم بها بَشر

أبا الوليد، وهل في الأرض زنبقةٌ/ إلاّ لمِثلكَ يزهو وجهها النّضِرُ

قُدْتَ المسيرةَ ما كانت لترهبها، / وأنتَ قائدها، الآلامُ والغيرُ

الشّاعر يتمعّن بما ورد في القرآن الكريم من آيات تتحدّث عن تقمّص الأرواح، وباجتهاد شخصيّ منه يقول:

غداً تجيء-إذاما جِئْتَ- عاصفةٌ/ من الجماهير لا تُبقي ولا تَذْرُ

*يختتم شوقي هذه الملحمة بحسرة ألم وأمل معاً:

طال ارتحالُكَ ما عوّدْتَنا سفراً/ أبا المساكين، فارْجعْ، نحن ننتظرُ!

وإذا كانت رائعة: بساط الرّيح للشّاعر المصري: بيرم التّونسي وغناء فريد الأطرش، تشمل سبعة وأربعين بيتاً ، جابت الأقطار العربيّة التي ما زالت منكوبة، وأغلبها لِتْرامب مخطوبة، متعة ومسياراً، دون مقدّم أو مؤخّر، والعرائس في أخر زمان وصرعته هي التي تخطب العريس، وتدفع المهر مقدّماً بالمليارات الصّعبة، ولا يهمّهنّ أن يَكُنّ ضرائرَ، ضُرَراً، ضريرات، فمن حق البعل تعدّد الزوجات، العشيقات والمحظيّات، ولا يكتفي بثلاث ورباع، العوانس الثّريّة كُثُر، في عهد ألف ليلة وليلة الجديد من لَدُن الأمريكي القبيح!

 وآلاف الرّحمات لملايين الشّهداء العرب الأبرار، وألف تحيّة حبّ وتقدير للشاعر الشّهم شوقي بزيع ، ونغنّي له مع جوليا بطرس:أنا بنت الجنوب، كلمات نبيل أبو عبدو، ألحان زياد بطرس:

غابتْ شمس الحَقّ وصار الفجر غروب/ وْصَدْر الشّرق انْشَقّ، تْسَكّرتْ الدّروب/مْنُرْفض نحنا نموت، قولوا لَهُنْ رَحْ نبقى/ أرْضكْ والبيوت والشّعب إلْ عَمْ يِشقى/هو إلنا يا جنوب، يا حبيبي يا جنوب/ رَحْ تبقى إلنا الدّار وْيرجع شجر الغار/يِزْهِر كرامة بِأرْضَكْ يا جْنوب!

ومن جنوب لبنان إلى جنوب ديارنا المقدّسة تحيّات حُبٍّ وصمود، مع بَزَع ومهارة وأناقة شوقي بزيع، وهو بعض من بردى والنّيل ودجلة والفرات والأردن و. . . . والانتخابات البرلمانيّة أمامنا لندليَ بأصواتنا مدوّية لأحزابنا العربيّة العريقة الرّاسخة مع الزّيتون ، السّنديان والصّبّار! نحن هنا معكم حتى يعلوَ صوت الحقّ،  ولسنا ريشة في مهبّ الرّيح، ولا غُزاة، ولا قادمين جددا، نحن الوطن، الأصل، الوصل والفصل!

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب