news-details

مجتمعنا العربيّ إلى أين!؟ . . لغتنا العربيّة إلى أين!؟| علي هيبي                                                                                                     

"ألر تلكَ آياتُ الكتابِ المبين(1) إنّا أنزلناهُ قرآنًا عربيًّا لعلّكمْ تعقلون (2)" هاتان هما الآيتان: الأولى والثّانية اللّتان تفتتحان سورة يوسف (السّورة رقم 12 في القرآن الكريم) وهناك في القرآن عدد كبير من الآيات الّتي تمجّد اللغة العربيّة واللّسان العربيّ المبين وبغير ذي عوج. الله يرفع من مكانة اللّغة العربيّة وينزّل القرآن بها مفاخرًا، ومجتمعنا العربيّ هنا في بلادنا ينزل من مكانتها ويخفيها وكأنّها ذات عوج ويرفع اللّغة العبريّة مكانها على يافطات المصالح التّجاريّة والمرافق الخاصّة والعامّة وبلا أدنى خجل، ولا يرعوي هؤلاء النّاس ممّن فعلوا ذلك ويفعلون وآمل ألّا يفعلوا في المستقبل هذه الإساءة لمن أكرمه الله والقرآن. والمجتمع العربيّ كلّه بكافّة طوائفه يحترم القرآن كتابًا مقدّسًا ومصدرًا للّغة العربيّة وحافظًا لها ومنهلًا ينهلون منه ما استساغوا وما طاب من مطاعم معانيه وشراب ألفاظه وبلاغة نظمه ومحكم آياته، والمجتمع العربيّ أكثريّته من المسلمين أصحاب القرآن، ولا يطيقون الإساءة إليه من أحد، ولكنّهم يسيئون إليه وإلى لسانه العربيّ المبين بقصد وبدون قصد، بوعي وبدون وعي كلّما رفعوا يافطات عريضة لا تحمل اللّغة العربيّة على واجهات محلّاتهم بل تحمل غيرها في قرانا ومدننا وحاراتنا وشوارعنا. ولا يدركون أنّهم بفعلتهم الشّنيعة تلك إنّما يعملون على زعزعة أسس وجودهم الواقعيّ ومكانتهم الحضاريّة ويشوّهون هويّتهم القوميّة العربيّة والوطنيّة الفلسطينيّة وشخصيّة ثقافتهم الإنسانيّة، وهم بهذا الإذلال إنّما يذلّون ذاتهم الجماعيّة وذواتهم الفرديّة. ورحم الله الأديب المصريّ "مصطفى صادق الرّافعي" وهو أحد رجالات النّهضة الأدبيّة والثّقافيّة إذ قال: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلّا ذلّ، ولا انحطّت إلّا كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ". وقال الكاتب الألمانيّ "فريتج": "اللّغة العربيّة أغنى لغات العالم". فهل تثير فينا آيات القرآن وأقوال الكتّاب العرب والغرب شيئًا فنرعوي ونخجل من لغتنا وقرآننا ومن أنفسنا ونتوب عن هذا الضّلال الدّينيّ والقوميّ والوطني والحضاريّ والإنسانيّ. إنّها لغتنا العربيّة عماد وجودنا ووجداننا! فاتّقوا الله أيّها العرب! اتّقوا الله أيّها المسلمون!

وتجد من النّاس من يتذرّع بذرائع عن تلك الفعلة بما هو أشنع من الفعلة نفسها، فيدّعي أنّ اللّغة العبرية يفهمها الجميع العرب واليهود، وهناك من يعلّق على اليافطة اللّغة العبريّة ظانًّا أنّه سيجتلب المواطنين اليهود للشّراء من متجره أو مطعمه، ولكنّ المواطنين اليهود يؤمّون القرى العربيّة وبالأخصّ يوم السّبت لسببيْن: الأوّل هو ما لنا من طعام عربيّ صميميّ من مطبخنا الأغنى والأشهى في العالم، ولا مطبخ متميّز لهم، وليس لهم طعام يهوديّ خاصّ، والثّاني الأسعار عندنا في المطاعم والمتاجر وبخاصّة في القرى العربيّة أرخص من الأسعار في المدن، ومعظم اليهود من سكّان المدن.    

أنظر ما تقوله الكاتبة الألمانيّة "سيجريد هونكه" بتساؤل محقّ: "كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللّغة ومنطقها السّليم وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان الّتي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللّغة". وكاتب ألمانيّ آخر اسمه "يوهان فيك" يقول: "لقد برهن جبروت التّراث العربيّ الخالد على أنّه أقوى من كلّ محاولة يقصد بها زحزحة العربيّة الفصحى عن مقامها المسيطر". ومستشرق ألمانيّ مشهور هو "كارل بروكلمان" يقول عن لغتنا:" بلغت العربيّة بفضل القرآن من الاتّساع مدًى لا تكاد تعرفه أيّ لغة أخرى من لغات الدّنيا". هؤلاء مثقّفون ألمان يتحدّثون عن جمال لغتنا الأخّاذ وسحرها الدّلاليّ والبلاغيّ وسلامة منطقها، ونحن نقبّحها ونضعف سلامتها ونجرّدها من جمالها ونعرّيها من ثياب أناقتها كعروس للّغات، بل كملكة جمال اللغات، ويتحدّثون عن أمداء اتّساعها الّتي تضيق عنها كلّ اللّغات ونجعل نحن لغة أضيق منها بستّة أصوات وحروف وأقلّ انتشارًا عالميًّا أكثر حيّزًا في محيطنا العربيّ وأكثر انتشارًا بين ظهرانينا. وإليكم بالخروج إلى حاراتنا وبالسّير في شوارعنا خير دليل وأقوى برهان.

عندما نزل الوحي لأوّل مرّة قال: "اقرأْ" فقال الرّسول: ما أنا بقارئ! فقال: "اقرأ بسْم ربّك الّذي خلق/ خلق الإنسان من علق/ اقرأ وربّك الأكرم/ علّم الإنسان بالقلم/ علّم الإنسان ما لم يعلم. (الآيات 1 - 5، سورة العلق سورة رقم 96، القرآن الكريم) التّعليم هو التّكريم، والقلم هو الأداة والقراءة استهلال القرآن وبداية المعرفة والخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم. هذه الآيات تشكّل روح الهداية الدّينيّة والرّشاد الدّنيويّ. ومن ثمّ قرأنا بعد حين أتى علينا، قرأنا: "قرآنًا عربيًّا أنزل لقوم يعقلون" (الآية 2، سورة يوسف) وَ "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الآية 3، سورة فصّلت رقم 41، القرآن الكريم) فالعربيّة لغتنا هي لغة العقل والعلم كلّها تخرج من لوح محفوظ واحد. فهل نحفظ لغتنا كما حفظتنا! لغة الشّعر والبلاغة، لغة العاطفة والخيال، لغة الفكر الإنسانيّ ورسول الحضارة والثّقافة الإسلاميّة، لغة ذات كلمات نابضة بالدّلالات والإيحاءات والظّلال المترامية الأطراف والأشعّة النّورانيّة، لغة الإيقاعات المموسقة والمتنوّعة، لغة التّخاطب اليوميّ ولغة استمراريّة التّواصل مع الجغرافية العربيّة والتّاريخ الضّارب جذوره في طبقات الأرض والشّامخ فوق أعنان السّحاب والسّماء، لغة الهويّة القوميّة والشّخصيّة الوطنيّة والّتي يحاولون تغييبها وطمسها. فهل نساعدهم على ذلك! وقد قال الشّاعر اللّبنانيّ "حليم دمّوس" فيها:

"لغةٌ إذا وقعَتْ على أسماعِنا         كانَتْ لنا بردًا  على الأكبادِ

ستظلّ  رابطةً   تؤلّفُ   بينَنا         فهيَ الرّجاءُ لناطقٍ بالضّادِ"

ولو أبحرنا في جمال صفحاتها وعذب نبوعها وسحر عيونها لألفيناها تقول بعزّة وسماحة وشموخ على لسان شاعر بلاد النّيل "حافظ إبراهيم":

"أنا البحرُ في أحشائِهِ الدّرُّ كامنٌ         فهلْ ساءَلُوا الغوّاصَ عنْ صدَفاتي

أرى لرجالِ  الغربِ  عزًّا  ومِنعةً          وكمْ    عزَّ    أقوامٌ     بعزِّ    لغاتِ"                   

عشرات بل مئات القصائد والمقالات كُتبت في تميّز لغتنا وروحها، وفي مديح موسيقاها وفي مكانتها السّامقة، وفي دورها الاجتماعيّ وفي آدابها الرّفيعة، ما لا ينكره حتّى الحاقدون على العرب والشّانئون لأمجادها، ولكن! منَ المؤلمِ والمحزنِ أنّ أهلها وأصحابها هنا، في قرانا ومدننا لا يقدّرونها حقّ قدرها، ولا يعطونها المقام المحمود الّذي يليق بعظمتها، فالتّحصيل الدّراسيّ فيها لدى طلّابنا في المدارس متدنٍّ عن العبريّة والإنجليزيّة، وهذا ممّا يغمّ البال أيضًا، وممّا يدمي القلب أن ترى العربيّة إذا وضعت على يافطات مصالحنا ومرافقنا، فإنّها تكتب تحت العبريّة وبخطٍّ ضئيل وبخجل، وهي الأعلى مقامًا عند غيرنا، فلماذا هذا الامتهان بلغتنا والوصول بها إلى هذا الدرك الأسفل من حياتنا وواقعنا. وبحجج واهية وتافهة نعلّل هذه الخطيئة. فهل نحن نسعى إلى هوان لغتنا وليس إلى عزّها! وفي الوقت نفسه نطالب الحكومةَ والسّلطاتِ المسؤولةَ، وهم أعداءٌ للغتنا، بكتابة العربيّة على يافطات الشّوارع والأماكن العامّة! ونسعى نحن إلى طمسها وتغييبها، وهي مهدّدة أصلًا! في الوقت الذي يجب علينا إبرازُها وإعلاءُ شأنِها! يجب أن يُصحّح هذا الأمر بالتّوعية والتّربية. ولذلك أدعو المسؤولين عن المؤسّسات والمعاهد وأصحاب المرافق والمصالح الخاصّة إلى تزيين مصالحهم بلغة الضّاد الّتي يُجمع الجميعُ على حبِّها وجمالها. وبها نحفظ وجودنا وبقاءنا وتطوّرنا في بلادنا، الّتي لا بلاد لنا سواها. ألا نسأل أنفسَنا: ما هو مصيرنا ومصير انتمائنا ووجودنا وهويّتنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا إذا تخلّينا عن أغلى ثوب نرتديه! عن أنصع وجه نحمله! عن سرّ وجودنا العربيّ وطموحنا الوطنيّ! ولنسأل: أين السّومريون والبابليّون والفينيقيّون وهؤلاء أجدادُ الحضارة منذ مهد التّاريخ! ذهبت لغاتُهم عن مسارح وجودهم ووجدانهم فذهبوا عن مسرح الحياة! أتريدون هذا المصير أيّها "المنجلقون" على العبريّة كانجلاق بعض النوّاب العرب على الارتماء في أحضان الفساد الحكوميّ وفي أحضان التّنكّر لوجود شعبنا وحقوقه وفي أحضان القبول بالمصالح العابرة على حساب الحقوق الثّابتة!؟ وأبرزها حقّ صيانة لغته، لغة شخصيّته القوميّة المتميّزة. أتريدون "الانجلاق" وراء العبريّة كما "انجلق" الخونة من قادة أقطارنا من ملوك مستبدّين ورؤساء جمهوريّين منحرفين من الأنظمة العربيّة على التّطبيع مع إسرائيل الّتي تهين لغتنا يوميًّا ولا تعترف بوجودنا ولا بحقّ شعبنا الفلسطينيّ بالحرّيّة والاستقلال والدّولة، حتّى إلى جانب إسرائيل! وما يجعل في النّفس جرحًا نازفًا أنّ كلّ ذلك "الانجلاق" يحدث وبلا ثمن وبلا مقابل، والمستفيد الوحيد من كلّ أنواع "الانجلاق" هو إسرائيل، لدرجة أنّ النّظام العميل في المملكة السّعوديّة ترجم القرآن إلى العبريّة بلغة ترضي اليهود فجعل المسجد الأقصى هيكلًا.                   

 

***

المستشرق الفرنسيّ "آرنست رينان" يقول في لغتنا: "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر انتشار اللّغة العربية، فقد كانت غير معروفة فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة، غنيّة كاملة، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، تلك اللّغة الّتي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقّة معانيها وحسن نظام مبانيها".  ومستشرق فرنسيّ آخر اسمه "وليم مارسيه" انظروا أيّها الأخوة العرب كيف يصف اللّغة العربيّة بشيء من الحبّ ويضفي عليها آية من الفنّ فيقول: "العبارة العربيّة كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنّت لديك جميع الأوتار وخفقت ثمّ تحرّك اللّغة في أعماق النفس". ويقول فرنسيّ ثالث هو "لويس ماسينيون": اللّغة العربيّة هي الّتي أدخلت في الغرب طريقة التّعبير العلميّ، والعربيّة من أنقى اللّغات فقد تفرّدت في طرق التّعبير العلميّ والفنّيّ".

أمّا مدرّس العميد "طه حسين" المستشرق الإيطاليّ "كارلو نلينو" فقد قال: "اللّغة العربيّة تفوق سائر اللّغات رونقًا ويعجز اللّسان عن وصف محاسنها". أمّا المفكّر البلجيكيّ "جورج سارتون" فقد قال في سهولتها: "إنّ اللّغة العربيّة أسهل لغات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النّفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السّهل وتوضيح الواضح". ومستشرق أسبانيّ اسمه "فيلا سبازا" يفضّلها عن اللّغات الأوروبيّة فيقول: "الّلغة العربيّة من أغنى لغات العالم، بل هي أرقى من لغات أوروبا لأنّها تتضمّن كلّ أدوات التّعبير في أصولها". ويقول الباحث "وليم ورك" عن اللّغة العربيّة: "إنّ للعربيّة لينًا ومرونة يمكّنانها من التّكيّف وفقًا لمقتضيات العصر". أكلّ هؤلاء العلماء الأجانب أدركوا وأحسّوا بجمال اللّغة العربيّة وخبروا أسرارها ورفعوا من قيمتها العلميّة وسحرها البلاغيّ والفنّيّ، ونحن عن ذلك غافلون نتوه وراء عالم المادّة والرّبح ونغرق في الاستهلاك الّذي يستهلكنا ويستهلك لغتنا ووجودنا وشخصيّتنا وهويّتنا ويزعزع الانتماء إليها في أجيالنا النّاشئة!؟ 

وإذا لم يقنعنا علماء الغرب ألا يقنعنا علماء العرب وفقهاء المسلمين!؟ فالإمام "الشّافعيّ" يقول: "لسان العربيّة أوسع الألسنة مذهبًا وأكثـرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ".

لقد دعانا منذ مئات السّنين ذلك الّذي بدأت الكتابة به "عبد الحميد بن يحيى" الملقّب بِـ "الكاتب" وكان كاتبًا لآخر الملوك الأمويّين "مروان بن محمّد"، دعانا قائلًا في رسالته إلى الكتّاب، وما قيل للكتّاب حينئذٍ يصحّ أن يقال الآن للأهالي ولأرباب الأُسَر وللهيئات التّعليميّة في المدارس والمعاهد وللمسؤولين في المؤسّسات الإداريّة والسّلطات المحلّيّة والبلديّة، دعانا إلى: "تعلّموا العربيَّةِ فإنَّها ثِقَافُ ألسنتِكم، وأجيدوا الخطَّ فإنَّه حليةُ كتبِكم".   

هل يهون علينا هذا التّراب الأسمر الذي تسمّرنا بقمحيّته وتمسمرنا في مروجه وجباله ووديانه، وفي قراه ومدنه، باقين جاثمين على صدور أعدائنا كالجدار السّميك والصّبّار الشّائك. أيهون علينا وجودنا ورغبتنا في تطويره كي نصدّ الطّامعين الرّاغبين بطمس معالم وطننا الفلسطينيّ، وأبرزُها الكنائسُ وصوت نواقيسِها والجوامعُ وصدحُ آذانِها، الرّاغبين بتغييب لغتنا العربيّة وهويّتنا القوميّة وشخصيّتنا الإنسانيّة، ولن يتسنّى لنا استمرار البناء وتطوير الوجود ولن يتأتّى ذلك، إلّا بالحفاظ على لغتنا العربيّة، وعاء حضارتنا وصوت ثقافتنا الّذي وصل إلى أصقاع الأرض، وبخاصّة الغرب الأوروبيّ، الذي ما انفكّ عن محاولات طمس رموزنا ورموز حضارتنا وإنكار فضلها، وما قدّمت لهم من أسس علميّة وثقافيّة، لا يمكن لعلم ولا لرقيّ حضاريّ ولا لحياة عقليّة أن تقوم وترقى بدونها، ولكم بالأرقام والورق والمناهج وطرق البحث خيرُ مثال، ولكم بابْن سينا وابْن رشد وابْن الهيثم وابْن النفيس وابْن خلدون وابْن الجزّار والإدريسيّ أروع النماذج، والنجوم السّاطعة عندنا لا تعدّ. فهل نقبل بإضاعة ثروة هائلة وكنز وفير بثمن بخس أو من أجل حفنة شواقل!؟  ولمن!؟ لأولاء الوافدين بفعل المؤامرات والوعود المزيّفة والهجرات المعلنة والسّرّيّة والإرهاب الصّهيونيّ إلى هذا الوطن، جاء زعماؤهم مشبعين بالكراهية والحقد وباستمرار الطّمس والتّغييب للمعالم العربيّة، وقاموا بتشويه الزّمان والتّاريخ والمكان والمعالم والهويّة وعبرنة كلِّ ما هو عربيّ، حتّى اللّغة العربيّة الّتي هي الوجه الآخر الحقيقيّ لمجتمعنا العربيّ. أهكذا نكون نحن وبأيدينا وبوعي منّا المزيّفين للوجه الحقيقيّ لمجتمعنا والمشوّهين للجمال السّاطع للغتنا! فنعلّق العبريّة "متباهين" فوق رؤوسنا كلّما دخلنا مؤسّسة أو متجرًا أو مصلحة أو مطعمًا وندوس على لغة القرآن والحضارة والأدب الرّفيع بالتّغييب وبالحجج الواهية والذّرائع التّافهة!               

شهدنا ونشهد طوال الوقت، الممارسات السلطويّة بحقّنا والمحاولات العنصريّة واللاحضاريّة للمسّ بمكانة اللّغة العربيّة في بلادنا. هذه البلاد الّتي غدا كلّ ما هو عربيّ فيها: من إنسان ومعالمَ ولغةٍ وترابٍ، غدا مقلقًا ومخيفًا لساستِها وحكومتها وبرلمانها، ونقولُ لمثل هؤلاء القلقين: إنّ مصدر القلق ليس منَ العرب وجودًا ووجدانًا وحضورًا إنسانيًّا وحضاريًّا، ولا من العرب لغة وحضارة، بل من سياسة التّمييز ومحاولات الطّمس والتّغييب التي مارستموها ضدّ كلّ ما هو عربيّ في هذه البلاد. وهي التي جعلتكم تنفّذون سياساتٍ همجيّةً وبهيميّة واستعلائيّة وعنصريّة، لا مخرج منها إلّا بالاعتراف بكلّ جرائمكم الماديّة والمعنويّة ضدّ وجودنا وحضورنا، بقائنا ولغتنا. "شوكةً في حلوقكم" سنبقى، هذا وطننا وسنعيش فيه عربًا إنسانيّين لغة وحضارة، وسنطوّر حضورنا الأبديّ بقوانا الذاتيّة رغم أنوفكم فاشربوا البحرا، "واللي مش عاجبو يرحل".   

***

وقد كان للاتّحاد العامّ للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48 دور كبير، ضروريّ وهامّ في التّنديد بكلّ هذه المحاولات، وهو يرى أنّ المكانة الرّفيعة للّغة العربيّة لا يحدّ ولا ينتقص من مجدها قرارٌ حكوميّ أو برلمانيّ، لأنّ هذه المؤسّسات لم ترفع يومًا من شأنها ولن تعمل على ذلك، بل رأت باللّغة العربيّة عنصرًا جامعًا للعرب الفلسطينيّين في هذه البلاد، يرسّخ مكانتهم السّياسيّة والاجتماعيّة، ويبرز هويّتهم القوميّة العربيّة، وكذلك فهي عاملُ تواصلٍ دائمٌ مع حضارتنا وثقافتنا منذ زمن بعيد، وكذلك هي عاملُ تواصلٍ مع شعوبنا العربيّة في العالم العربيّ الممتدّ من أواسط آسيا حتّى أعماق أفريقيا. ولذلك يقوم الاتّحاد العامّ للأدباء بنشاطات وفعاليّات لغويّة وإبداعيّة في المدارس لتعزيز اللّغة العربيّة في وجدان طلّابنا وتحبيبهم بها من أجل تقوية الاعتزاز بالهويّة والانتماء القوميّ من خلال برامج لا منهجيّة وطنيّة وتثقيفيّة لا يوفّرها المنهاج الدّراسيّ الرسميّ، ومن خلال إقامة المؤتمرات الثّقافيّة والنّدوات والأمسيات الأدبيّة، ولعلّ أبرز أنشطته إصدار مجلّته الفصليّة "شذى الكرمل" صوت الحركة الأدبيّة الفلسطينيّة والعربيّة في الدّاخل، والّتي ستنهي مع العدد القادم (عدد كانون الأوّل 2020) بنجاح وتألّق عامها السّادس، وأحدث النّشاطات وأبرزها إقامة موقع إلكترونيّ لنشر الموادّ الثقافيّة والإبداعات الأدبيّة لأعضاء الاتّحاد وأصدقائه في فلسطين وفي العالم العربيّ.

ونقول لهؤلاء أيضًا إنّ جبل اللّغة العربيّة الشّامخ كشموخ "الجرمق" والسّامي كسموّ "الكرمل" والهادر كبحر "عكّا" والرّاسخ كرسوخ الزّيتون السّوريّ والشّهيّ القاني كرمّان قانا واللّذيذ كبرتقال يافا: هذا الجبل لا ريحَ تهزُّهُ ولا عواصفَ عنصريّةً واهيةً تهبّ من مكاتبِ الأجهزة الرّسميّة والمخابراتيّة في هذه الدّولة، لأنّ هذا الجبل شاهق، فرعُه سامق يطاول السّماء وجذرُه  ضاربٌ في أعماق الأرض، لقد اكتسب عظمته وثباتَ مكانتِه ممّا حمَلَهُ على مدى قرون طويلة من ينابيعَ رقراقةٍ كسلسبيلٍ عذبٍ، تنساب وتفيض مياهُه بمضامينها الحضاريّة والإنسانيّة لتسقيَ وتطعمَ العالم وأممَه وحضاراتِه وثقافاتِه وجباتٍ دسمةً من على موائدِ لغتنا العربيّة، وما فيها من ثقافة إنسانيّة وإقبالٍ على الفكر الحرّ والحياة العريضة.

إنّ اقتراح بعض نوّاب اليمين الفاشيّ في الكنيست لقانون المسّ باللّغة العربيّة وإزالة الصّفة الرّسميّة عنها، يعبّر عن مدى جهل هؤلاء ومن لفّ لفّهم ومن هم على شاكلتهم ومن يفكّر مثلهم بعمق الحضارة العربيّة الضّاربة جذورها في هذا التّراب، وفي وجدان المجتمع العربيّ، هنا وفي كلّ مكان، وكذلك هم يجهلون ما لهذه اللّغة من وشائجَ وجوديّةٍ ووجدانيّة، لا تنفصم عُراها مع أصحابها الّذين لا ينفكّون عن الدّفاع عنها أمام كلّ معتدٍ أثيم، وهم يجهلون أو ربّما يتجاهلون دور هذه اللّغة وما قدّمته من نور وعلم لأوروبا الحديثة، التي كانت تغرق في سبات وجهل، ويجهلون ما كان من انسجام ونعيم للأدباء والكتّاب والفلاسفة اليهود قديمًا وحديثًا على أرائك العربيّة ونمارقِ شعرها وجنان فكرها ونقوش كتابتها، فليعودوا إلى ذلك التّراث العظيم عند "موسى بن ميمون" فثمّة دليل لهم كي لا يبقوا حائرين وعند "أبو الحسن اللّاوي" وغزليّاته الرّقيقة.

يجب علينا إذا كنّا نحترم أنفسنا، لغتنا، تاريخنا، قرآننا، رموزنا في الفكر والأدب، حضارتنا وثقافتنا أن نجدّد العهد للمضيّ قدمًا لقصّ كلّ يد تمتدّ لتنالَ من لغتنا وهويّتنا. كما ندعو كلّ الجهات المسؤولة والمعاهد والمؤسّسات إلى الوقوف ضدّ هذه المشاريع الدّنيئة، وإلى الحفاظ والتّطوير الدّائم للغتنا العربيّة، والّتي هي وجهنا الحضاريّ وشخصيّتنا القوميّة ووجودنا الرّاسخ في هذا الوطن الّذي لا وطن لنا سواه، وهي لغتنا الّتي نحبّ، لأنّها عروس اللّغات وملكة جمال لغات هذا الكون. هذه اللّغة العربيّة يجب أن تظلّ حصنًا حصينًا لوجودنا وبقائنا وانتمائنا العربيّ والإنسانيّ.

تعالوا ننظر في جواب الشّاعر الجزائريّ العربيّ "مالك حداد" الّذي حرمته سياسة الفرنسة الاستعماريّة من لغة روحه وقوميّته، فبعد التّحرير كان يعلّم ابنه العربيّة فقال لصديق له: "حين أعلّم ابني اللّغة العربيّة فأنا في الحقيقة أنتقم من الفرنسيّين". ألا تريد سياسة العبرنة الإسرائيليّة أن تحرمنا من لغة روحنا وانتمائنا القوميّ العروبيّ فلماذا لا ننتقم منها ونتمسّك بلغتنا ونعلّمها لأطفالنا وأبنائنا وطلّابنا، فلندرك قبل فوات الأوان أنّ علينا واجبًا شخصيًّا وجماعيًّا، قوميًّا وأخلاقيًّا، ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا نحو لغتنا لئلّا تضيع، ما دام فينا حرف ينبض، وما دام فينا عرق ينبض وقطرة دم تتدفّق. والويل لأولئك الّذين لا ينتقمون من العبرنة فقط بل يساعدونها في سياسة الطّمس والتّغييب، بوضع اليافطات في قرانا العربيّة بالعبريّة فقط، وبهذا يغدون عملاء للعبرنة، خونة للعربيّة، عن وعي وعن غير وعي، عن قصد وعن غير قصد. وويل لهؤلاء الخونة العملاء من لعنة التّاريخ ولعنة الأجيال القادمة، لأنّهم بذلك يضيّعون لغتنا وسيضيّعوننا بعد ضياعها، فلا تكون لنا صورة واضحة بل كالحة، ولا يكون لنا أصل عريق، ولا وجدان ولا وجود، ولا مضمون ولا شكل، ولا عروبة ولا هويّة، ولا انتماء فلسطينيّ ولا وطن.

وما يحزّ في النّفس أنّك تدخل اليوم إلى قرية مثل "كابول" أو مدينة "سخنين" أو قرية "يركا" أو قرية "معليا" أو قرية "المغار" وهذه أمثلة فقط، "فكلّنا في هوا الضّياع سوا" فتجد أنّ معظم المصالح والمرافق قد "ازدانت" بالعبريّة" على واجهاتها ونزرًا قليلًا قليلًا زيّن مصلحته بالعربيّة ونزرًا آخر جمع بين الاثنتيْن. كنت أؤمن في البداية أن لا ضير من الجمع بينهما، لكنّي اليوم أقول بأن لا حاجة للعبريّة بتاتًا، طالما نحن في قرى أو مدن عربيّة، أهلها عرب ومحلّاتها عربيّة وجمهور الزّبائن كلّه من العرب، وإذا حضر رجل يهوديّ ليبتاع ويأكل عندنا فليحبّ أو فليستسغ لغتنا كما يحبّ طعامنا الشّهيّ ويستسيغه ولينتفع بأسعارنا الزّهيدة. وإذا هناك من يشترط حضوره بالكتابة بالعبريّة – ولا أعتقد ذلك، لأنّ ذلك مرض فينا - فليذهب ولا يعود! والأكثر حزازة في النّفس أنّك تزور قرية "مجدل شمس" السّوريّة العربيّة المحتلّة في هضبة "الجولان" وهي قرية وطنيّة سوريّة رفض أهلها الهويّة الإسرائيليّة، ويقاومون الاحتلال مقاومة الأبطال، يتوسّط ميدانها الرّئيسيّ تمثال القائد العربيّ العظيم وقائد الثّورة السّوريّة الكبرى ضدّ الانتداب الفرنسيّ "سلطان باشا الأطرش" وتجد في قرية السّجين المناضل "صدقي المقت" معظم اليافطات باللّغة العبريّة. أكلّ ذلك من أجل حفنة شواقل من زوّار يهود يؤمّونها للسّببيْن السّابقيْن ولسبب أخطر هو تأكيد ارتباطها وكأنّها جزء لا يتجزّأ من إسرائيل ليحقّ لها الاستيطان فيها على حساب أرضنا ووطننا. إلى أين يأخذنا التّهاون والتّنازل وحطام الدّنيا والتّفكير المادّيّ الاستهلاكيّ. وأنا ممّن تصحّ فيهم النّعوت "سويد وجه" وَمن جماعة "وين بعدك" ومن جماعة "شو إلك" وأقول "آه ظلّ عرب"، رغم كلّ الانتكاسات، أدخل إلى مصلحة في قرية أو مدينة عربيّة ترفع العبريّة فقط فأعترض وأتدخّل "وإلي" وأنا ما زلت هنا وببياض وجه لصالح لغتنا العربيّة العظيمة ووجودنا الوطنيّ وشخصيّتنا القوميّة، الّتي لا نرضى عنها بديلًا.           

لقد قال العميد "طه حسين" "اللّغة العربيّة يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاجه في العصر الحديث". نعم! نحتاج إلى تطويرها ولا تحتاج منّا أهانتها وإذلالها بأن ننتقص منها ومن مكانتها ومن دورها الأساسيّ في وجودنا. وفي هذه المناسبة أرجو وأطالب وأنادي أخوتي العرب من أصحاب المصالح والمتاجر والمطاعم في المجتمع العربيّ بأن يزيّنوا واجهات مصالحهم باللّغة العربيّة، لغة القرآن والحضارة الإسلاميّة، وهي اللّغة الّتي امتدحها الغربيّون والعرب من العلماء والأدباء وهي لغة الوجود ولغة الحضور ولغة الاستمرار في التّطوّر الحضاريّ وهي لغة أفصح العرب الرّسول "محمّد" الأكرم (ص).  

هذه المرّة أرجو وأناشد وفي مرّات قادمة سأدعو وأطالب وبعدها سأهتف وأصرخ، ومن ثمّ سأطالب كلّ إنسان عربيّ تعزّ عليه عربيّته وعروبته ودينه وحضارته ورموزها المبجّلون وانتماؤه الوطنيّ وحبّه لتراب آبائه وأجداده أن يقاطع كلّ متجر أو مطعم أو مصلحة لا ترفع العربيّة في واجهتها وفوق كلّ اللّغات وبخطّ بارز وعريض وينيره التّيّار الكهربائيّ إذا أمكن، كما تنير هذه اللّغة بكافّة تيّاراتها النّورانيّة حياتنا ووجودنا وانتماءنا على هذا التّراب العربيّ الّذي لا تراب لنا سواه.  

 

كابول

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب