news-details

مداعبات ثقافيّة في الدراما الخليجيّة هدفها التطبيع| أفنان كناعنة

توالت في الأسابيع الماضية الأعمال التطبيعيّة العلنيّة بين الدول الخليجيّة وإسرائيل، بدءًا من زيارة وفد إسرائيليّ إلى دبي للمشاركة في التحضير لمعرض "إكسبو 2020" الدوليّ، ثمّ الطائرة الإمارتيّة الفاخرة التي ساعدت في إجلاء إسرائيليّين من المغرب، وإلى الطائرتين الإمارتيّتين اللتين حطّتا في مطار بن غوريون بحجّة تقديم مساعدات للفلسطينيّين، على  الرغم من عدم علم الجانب الفلسطينيّ عنهما ورفضه لأيّ مساعدات تحت غطاء التطبيع، انتهاءً بنشر مقال للسفير الإماراتيّ لدى الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، في "يديعوت أحرونوت" الإسرائيليّة، والذي حرص فيه على تثبيت رؤية بلاده للتطبيع وتأكيد وجود مصالح مشتركة قائمة بين البلدين، وخوفه من تزعزع هذه العلاقة على أثر الضم، وغيرها من الأحداث والأعمال التي بات التطبيع فيها معلنًا، صريحًا ومباشرًا دون حاجة أيّ طرف من الطرفين الإسرائيليّ أو الخليجيّ لسترها أو عقدها في الظلّ.

نتيجة لذلك، وجب أن نسترجع قضيّةً كانت قد عصفت بالعالم العربيّ كلّه خلال شهر رمضان الكريم، وأثارت موجة غضب عارمة موجّهة نحو المسلسلات الخليجيّة التي اتهمت بمحاولة التأسيس للتطبيع مع إسرائيل. وقد جاء ردّ قناة MBC السعوديّة والقائمين على مسلسل أم هارون بأنّ المسلسل هو عمل دراميّ يعكس الواقع، ويصوّر حقبة زمنيّة عاش فيها اليهود مع العرب في دول الخليج. إلّا أنّ هذا الادّعاء واهٍ، جاء للدفاع عن العمل والتبرير له، حيث لا يمكن للواقع أن يكون مجرّدًا، ويكاد يكون من المستحيل أن يخلع الفنّان، الكاتب أو الرسّام عنه قناعاته، أيديولوجيّاته ورؤيته ولو حتّى في محاولة للنقل الدقيق لأحداثه. عدا عن ذلك، لا بدّ من الحديث ها هنا عن النظريّة الإعلاميّة-بناء الواقع، حيث يرى بودريار أنّ الإعلام لا يعمل فقط على نقل الحقيقة، وإنّما يذهب في الكثير من الأحيان إلى إعادة بنائها من جديد، وبذلك تسهم وسائل الاتصال الجماهيريّ في تشكيل الرأي العام عند الجمهور، أفكاره، مواقفه وتمثّلاته، وتخلق تباينًا بين الواقع الحقيقيّ وما يعتقد الجمهور أنّه واقعًا. عمليًّا، يُساهم الإعلام في رسم صورة للواقع في ذهن المتلقّي، وتشكيله بما يتلاءم مع رؤية الجهات المسؤولة عن صناعة العمل الإعلاميّ، المسيّسة في الغالب، ويسعى لتحقيق أهدافها من خلاله.

وعلى غرار مسلسل "مخرج 7" الذي جاء خطابه واضحًا مباشرًا، كان خطاب مسلسل أم هارون غير مباشر محاولًا الالتفاف على القضيّة الرئيسيّة، وتنميط وتأطير الوجود اليهوديّ في الشرق الأوسط بشكلٍ جديد. عوضًا عن الصورة المعهودة لليهوديّ العدو، صار اليهوديّ جارًا، وممرّضًا، وأمًّا، باختصار عمل مسلسل أم هارون على أنسنة القاتل. وهنا لا يمكن أن ننكر أنّ مشكلتنا ليست مع اليهود وإنّما مع الصهيونيّة ككُل، ولكن مع ذلك ليس بالإمكان التغاضي عن الدلالات السياسيّة السلبيّة المشحونة في كلمة يهوديّ اليوم، والتي لا يمكن فصلها عن السياسة والمفاهيم الصهيونيّة الإسرائيليّة، ولا عن إسرائيل كدولة إثنوقراطيّة ودينيّة وهي التي تُعرّف نفسها دولةً لليهودِ فقط. بالتالي، لا يجوز أن نكون غافلين عن هذه الحقيقة وأن نحاول العودة بتصوّرنا عن اليهوديّ للفترة التي سبقت النكبة، بعد أن غيّر الاحتلال كلّ شيء.

أضف إلى ذلك، أنّ الجهات المسؤولة حاولت أن تختزل الصراع القوميّ الفلسطينيّ وكأنّه صراع دينيّ، وهذا منظور فيه تشويه وانزياح عن الواقع الحقيقيّ. إنّ غياب المعاناة الفلسطينيّة والفلسطينيّين هو وسيلة لبناء الواقع كذلك، فالغياب يحمل دلالات أيديولوجيّة وفكريّة أيضًا، أيّ لا يمكن أن نتعامل مع المسلسلات الخليجيّة على أنّها أعمال دراميّة بريئة على الإطلاق، وإن أطّرناها في المجال الفنّيّ الثقافيّ وحسب.

وتشير الدراسات الإعلاميّة إلى أنّ الثقافة وأجهزة الإعلام يمكنها أن تكون سلاحًا فتّاكًا للغاية، وقد نال الدور الذي تلعبه الثقافة في تعزيز العلاقات الدوليّة وتوطيدها على اهتمام الباحثين، وهو ما سُمّيَ بالقوّة الناعمة والدبلوماسيّة الإعلاميّة، أيّ أن تفرض دولة ما سيطرتها ليس من خلال القوّة العسكرية وإنّما من خلال الغزو الثقافيّ، والزحف إلى المجتمعات والأسواق المحلّيّة لدول أخرى من خلال الإعلام بهدف تحسين صورتها وتغيير العلاقات مع هذه الدول. بكلمات أخرى، عوضًا عن أن تغرس دولة ما مخالبها في دولة أخرى، هي تلاطفها وتداعبها بأصابعها حتّى يروق لشعبها هذه المداعبة وتعتاد عليها.

على مرّ سنينٍ طويلة حاولت إسرائيل أن تكسب تعاطف شعوب العالم ودعمهم من خلال الإعلام الأمريكيّ والمحتويات الإسرائيليّة التي تُبثّ من خلال المنصّة العالميّة نيتفلكس وغيرها، والخطة الاعلاميّة الديماغوجية الضخمة لوزارة الخارجيّة الاسرائيليّة. مع ذلك ظلّت علاقاتها مع الدول العربيّة التي تعيش وسطها، وتشكّل تهديدًا عليها، غير مستقرّة، وقد أدركت إسرائيل أنّ من يقف بالمرصاد للعلاقات العربيّة الإسرائيليّة هي الشعوب العربيّة والرأي العام في الشارع العربيّ وليست حكومات الدول التي باتت عمليّات تطبيعها الرسميّة مع إسرائيل معلومة للجميع. لذلك حاولت أن تزحف إلى العالم العربيّ من خلال شاشة التلفاز وأن تتغلغل إلى أفكارهم وهم في بيوتهم وصالاتهم، وتحوّل وجود اليهوديّ، بالتالي الإسرائيليّ، إلى شيء طبيعيّ وعادي من خلال ترسيخ معالم الهويّة اليهوديّة ورموزها، وأنسنة القاتل الذي يعيش في دولة أبرتهايد تمارس القمع والعنصريّة الممنهجة تجاه الشعب الفلسطينيّ في جميع أماكن تواجده. أيّ أنّ في هذه الأعمال تغييب للواقع، ففي الوقت الذي يشاهد الجمهور صورة اليهوديّ المظلوم، هناك فلسطينيّ يُقتل لأنّه سمح لنفسه أن يصاب بنوبة صرع إلى جانب حارس أمن إسرائيليّ يحمل سلاحًا، وطفل يستشهد قبل أن يبلغ الثامنة عشر، وسجين يعاني أسوأ أنواع التعذيب في السجون الإسرائيليّة، ومفتاح لا زال معلّقًا بحلم العودة لعجوز لم يرَ بيته منذ أكثر من سبعين عامًا.

هذا التحوّل في صورة اليهوديّ، بالتالي الإسرائيليّ، في الشاشة العربيّة ليس بريئًا، بعد أن كانت العلاقات مع الاسرائيلي تسمّى خيانةً وعمالةً، صارت تسمّى انفتاحًا، تقبّلًا للآخر وتعايشًا، وفي هذا تمهيد لاحتمال تطوّر العلاقات بين الدول العربيّة وإسرائيل بعد أن كان الموقف منها محسومًا. ولعلّ الأحداث التي تلت بثّ هذه المسلسلات هي خير دليل على ذلك. من ناحية، تحوّل التطبيع إلى حقّ يطالب به العرب وتتداوله الألسن، بعد أن كانت القضيّة الفلسطينيّة قضيّة أخلاقيّة، وظهرت العداوة التي أضمرتها فئات من العرب في حملة استشراس ضدّ الفلسطينيّين، بلغت أوجها في تنصّل العرب من القضيّة الفلسطينيّة من خلال هاشتاغ #فلسطين_ليست_قضيتي. صار يُصرّح بالتطبيع جهرًا وعلى العلن بعد أن كان ذات يوم عارًا، وبدأت فئران العرب من الخونة والمطبّعين بالخروج من سراديبهم التي اختبئوا بها فيما مضى. ومن ناحية أخرى، ارتدى الذئب الإسرائيليّ ملابس الحمل وتظاهر بأنّه الضحيّة، ولعلّ أبرز الجهات الإسرائيليّة التي احتفت بالمسلسلات الخليجيّة هم: أفيخاي أدرعي – أو ما تسمّيه إسرائيل، المتحدّث بلسان "جيش الدفاع" للإعلام العربيّ وكذلك صفحة إسرائيل تتكلّم بالعربيّة، وكلاهما يستهدفان الجمهور العربيّ.

بالرغم من ذلك كلّه، لا بدّ من الإشادة بالقسم الأكبر من الجمهور العربيّ الذي وقف أمام هذه الأعمال المطبّعة بجبروته كعملاق أمام أيّ محاولة لتلميع صورة اليهوديّ، وكسدٍّ عالٍ في نهاية كلّ طريق يؤدّي إلى توطيد العلاقات مع إسرائيل. جاء رفض الجمهور العربيّ بغالبيته لهذه الأعمال والمحاولات الدنيئة للالتفاف على الواقع مشرّفًا، مثبتًا أنّ فلسطين لا زالت قضيّته بالدرجة الأولى، معلنًا انتماءه إليها وإلى نضالها، وإن انحصر رفضهم في الحدود الكلاميّة للحيّز الافتراضيّ ولم يترجم إلى أفعال في الحيّز الجغرافيّ الحقيقيّ. هذا الرفض في النظريّات الإعلاميّة غير مفهوم ضمنًا في عالمٍ لا تتساوى فيه المرجعيّات الثقافيّة للأفراد، حيث أنّ ما يُمكّن الجمهور من تفكيك الخطاب والرسالة الإعلاميّة هو الرصيد الثقافيّ والفكريّ للمتلقّي، ومدى فهمه وإدراكه للواقع الحقيقيّ، ولا بدّ من الإشارة ها هنا أنّ رفض الجمهور العربيّ لهذه الأعمال ما هو إلّا دليل على الوعيّ العربيّ بالقضيّة الفلسطينيّة.

*كاتبة المقال خريجة لقب أول في الإعلام واللغة العربيّة من جامعة حيفا، ومهتمّة بالكتابة والعمل الصحفيّ.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب