news-details

رواية "أنا استثناء ... فاحذر" مشروع روائيّ يُبَشِّرُ بالكثير! 2-2


 الجماليّات الفنّيّة والأسلوبيّة في الرواية

تستقي الكاتبة آليّاتها الفنّيّة والأسلوبيّة من الأيديولوجيا النسويّة أيضًا، تلك الأيديولوجيا التي تكفر بالنظريّة الأدبيّة؛ لأنّها من نتاج المؤسّسة الذكوريّة، ولم يكن للمرأة فيها أيّ دور، وعليه تثور الكاتبة على تلك النظريّة موظّفة عدّة آليّات تسهم في خلخلة معايير ها، ولعلّ أبرز تلك الآليّات استخدام المبنى المقلوب للحبكة، ممّا يستدعي حضور آليّات تيّار الوعي بصورة مكثّفة، كالاسترجاع، الاستطراد، المونولوج، المناجاة، والتداعيات، الأسئلة البلاغيّة، والتكثيف من الأحداث الداخليّة على حساب الأحداث الخارجيّة، ونحو ذلك.

تبدأ أحداث الرواية من مكان ما في وسط الرواية بعد انقطاع علاقة البطلة بحبيبها نحو ست سنوات، يعود رجوان ليتصل برغد التي تستحضر ظروف لقائها به وما تسبّب لها من حادث عند الإشارة الضوئيّة، وكيف تطوّرت علاقتهما حتى اجتماعهما في حيفا، وما تمّ بينهما من علاقة جنسيّة غير تامّة، ثمّ قرارها بالانفصال عنه؛ لأنّه كان متزوّجا وينتظر مولوده البكر، ولأنّها لا تريد أن تكون سببا في شقاء امرأة أخرى، ثمّ تعود إلى مكالمته الهاتفيّة وسؤاله عن حياتها الزوجيّة، ثمّ تذمّره من علاقته بزوجته التي انفصل عنها قبل سنتين، وعودته لسؤاله عن كيفيّة انتهاء العلاقة بينهما، فتخبره أنّها هي التي قرّرت الانفصال، ثمّ تبادر إلى إنهاء المكالمة بسبب حضور صديقتها حنان التي تلومها على مواصلة الحديث مع رجوان بعد أن تركته، وتزوّجت، وتدعوها لتعيش مع زوجها بعيدًا عن رجوان، وتعمل على ترميم علاقتها بزوجها، فرجوان لا يستحقّ كلّ تلك التضحية، لأنّه زير نساء، ينتقل من واحدة لأخرى، وقد كانت هي إحدى ضحاياه، ممّا يجعل رغد تقرّر الابتعاد نهائيًّا عن رجوان لتعيش آمنة مطمئنّة مع زوجها الذي ضحّى بالكثير لأجلها، وفي أثناء ذهابها إلى العمل تلتقي برجوان عند الإشارة الضوئيّة مرّة أخرى فتخبره أنّ العلاقة بينهما قد انتهت منذ ستّ سنوات ولم يعد له مكان في قلبها، بذلك تخلق الكاتبة نوعًا من الدائريّة لأحداث الرواية التي تبدأ فعليًّا وتنتهي عند الإشارة الضوئيّة، وعليه يُعمل القارئ قدراته في لملمة أحداث الرواية وترتيبها ليتمكّن من فهمها، والمشاركة، من بعدُ، في انتاج الرواية ليظهر قارئًا نشطًا وفاعلًا.

تتّكئ الكاتبة على تقنيّة الاسترجاع بصورة كبيرة جدًّا، إذ يتوقّف السرد في كثير من الحالات لتسترجع جانبًا من حياتها، كاسترجاع علاقتها برجوان التي تسهب في عرضها بكلّ تفاصيلها حتّى تحتلّ مساحة لا بأس بها من الرواية، وكذلك استرجاع علاقتها بزوجها حبيب وكيف تعرّفت إليه حتّى زواجها به، ووصف ما حدث من توتّر في تلك العلاقة حتّى قرار عودتها إليه، أو استرجاع حادثة مسؤول الساقطات وكيف أصرّت على ضرورة تقديم اعتذاره لها ولزميلاتها الجامعيّات بعد إساءته لهنّ، كما تفرد مساحة كبيرة لاسترجاع علاقتها بصديقتها حنان التي أخلصت لها، وساعدتها في فضّ علاقتها برجوان بعد أن قدّمت لها الأدلّة والبراهين على عدم إخلاصه لها، وأنّه إنسان مريض نفسيًّا وجنسيًّا لا يستحقّ أن تدمّر حياتها مع زوجها لأجله.

في كثير من الحالات تتحوّل الكاتبة عن تقنيّة الاسترجاع إلى تقنيّة المونولوج الموظّفة هي أيضًا في الرواية بصورة كبيرة كوصف رغد لحالها بعد شربها الكثير للنبيذ، أوالمونولوج الذي تعقده لتتأمّل علاقتها وسلوكها مع رجوان، ونجدها تغرق في مونولوج طويل مع نهاية الرواية بعد مغادرة صديقتها حنان حتّى يستحوذ ذلك المونولوج على جزء كبير من الرواية، كما تفرد مساحة أخرى لتقنيّة مناجاة الذات وهي تتحدّث عن علاقتها بزوجها حبيب، أو تلوم نفسها على تواصلها مع رجوان الذي خانها كما خان زوجته وأخريات مثلها، وعليه تظهر هذه التقنيّات مهيمنة على أحداث الرواية التي تبدو في معظمها أحداثًا داخليّة، تخرج منها لسرد بعض الأحداث الخارجيّة، لكنّها سرعان ما تعود إلى رصد ما يعتمل في داخل شخصيّة البطلة عبر التساؤلات البلاغيّة، أو التداعيات، أو المونولوجات، وبذلك تضمن الكاتبة في توظيفها هذه التقنيّات خلخلة النظريّة الأدبيّة الذكوريّة التقليديّة، لكنْ، ورغم كلّ ما تقدّم، علينا أن نبقي في الذاكرة أنّ هذه الآليّات ليست مقصورة على الأدب النِّسْويّ، ولا هي من صنيعه، إنّها معروفة ومستخدمة في الأدب الذكوري الرسميّ، إلّا أنّ الكاتبة النسويّة تلجأ إلى استخدامها؛ لأنّها تضمن لها تحقيق هدفها في زعزعة مقوِّمات النظريّة الأدبيّة الذكوريّة أكثر من غيرها.

ممّا يؤكّد جرأة الراوية استخدامها الواضح لضمير المتكلّم (الضمير الأوّل) الحاضر على مساحة الرواية كلّها، وخاصّة في المضامين المحظورة اجتماعيًّا كوصف البطلة للممارسة الجنسيّة بينها وبين رجوان ومبادرتها إلى ذلك، ثمّ تنكّبها عن مواصلتها لأنّها لا ترغب في علاقة جنسيّة تامّة، كما تقدّم الحديث عن ذلك.

تعمد الكاتبة إلى توظيف اللغة الأنثويّة، وهي لغة خاصّة بالمرأة، إنّها لغة سماويّة لا أرضيّة، لغة منحوتة من جسد الأنثى كقول الراوية: "ومن نظر إلى وجهي يومها حتمًا رأى لونه الأسود كلون الدم الفاسد في رحم المرأة قبيل قدوم عادتها الشهريّة"(46)، أو قولها: "كأنّها تعمّدت أن ترميَ أمامي بجبلٍ حمَلَتْه وقتًا طويلًا وها هي تنتهز الفرصة لترمي بحملها أمامي. هذا الحمل غير الشرعيّ الذي تنوي أن تجهضه لتُخفّف عن نفسها آلام مخاضها فيه"(81). في مواضع أخرى يلتقي القارئ بتلاعب الكاتبة اللفظيّ، مسخّرة أسلوب الجناس، إذ تقول: "فأنا بنظرهنّ إنسانة اندفاعيّة أحبّ الانطلاق أو الطلاق، فلا فرق بينهما لديّ!"(9)، أو قولها: "عندما يكون الحبّ عقيمًا لا عميقًا، علينا أن نُخصيَه لا أن نُخْصِبَه...!"(94)، كما تلجأ في بعض المواضع إلى استخدام لغة محكيّة تنسجم وثقافة الشخصيّة أحيانًا كتهديد أم سميح لأبي محمود، إذ تقول: "ولَكْ أبو محمود بلاش أبلِّش فيك، ضُبّ حالك وضُبّ أغانيك خلّيني أعرف أخود قيلولتي! قبل ما أخلّي الله يوخدك"(8). أو لأنّ المحكيّة أصدق في التعبيروأقرب إلى الفهم أحيانًا، ومن ذلك توبيخ الأمّ لرغد في قولها: "صُرتْ حاكية مليون مرّة الحيط مش للكتابة ملّيتي الحيط شحابير يا رغد"(66). وكثيرًا ما تلجأ الكاتبة إلى استخدام الأمثال الشعبيّة كقول الراوية بعد حادثة السير: "أجت الحزينة تتفرح ما لقتلهاش مطرح"(10)، أو قول حنان وهي تخفّف عن رغد: "صدَقُوا عندما قالوا: "ما بقع غير الشاطر"(73)، وغير ذلك.

من الملاحظات الجديرة بالذكر أنّ الكاتبة تعرض شخصيّات الرواية وأحداثها بصورة مباشرة، إنّها تلجأ إلى أسلوب الإخبار التقريريّ لا التصويريّ، على عكس ما ينادي به "هنري جيمس"؛ ممّا يبعث على الملل ويسيء إلى جماليّة الرواية، فهي لا تدع مجالًاللقارئ حتّى يكتشف سمات الشخصيّات من خلال الأحداث، إنّما تصرّح بها مباشرة، كوصف رغد لذاتها(9 – 29)، أو وصف حنان على لسان البطلة(65 – 66)، ونحو ذلك. أمّا الأحداث فتمتحها من ذاكرتها عبر تقنيّة الاسترجاع لتأتي في معظمها تقريريّة إخباريّة وكأنّها تَعرضُ للقارئ تقريرًا صحفيًّا.

تستشهد الكاتبة بمقولات كثيرة جدًّا لأدباء ومفكّرين من العالمين الغربيّ والعربيّ مثل أرسطو، جوتيه، أجاثا كريستي، جيمس هويل، شولز، جون غراي، إبراهيم نوّار، نجيب محفوظ، أنيس منصور وغيرهم،ممّا يعكس ثقافتها وسعة اطّلاعها، وهي في معظمها مقولات عن المرأة والرجل، الألم والسعادة، الحبّ، والسياسة، تأتي أحيانًا لتعزّز الفكرة التي تناقشها، ونجدها في حالات أخرى مقحمة على الرواية، يمكن الاستغناء عنها؛ لما فيها من إساءة للرواية وكأنّها لا تقوم الرواية إلّا بها.

وممّا يؤخذ على الرواية أيضًا وقوع الكاتبة في أخطاء عديدة؛ نحويّة وإملائيّة منتشرة في تضاعيف الرواية، تقتضي مراجعة العمل قبل نشره ليأتي أقربَ إلى الكمال، ومن نماذج ذلك؛ شاطؤها بدل شاطئها(29)، على يديّي بدل على يديَّ(51)، سيقبلوه بدل سيقبلونه(74)، لن يجدني نفعًا، بدل لن يجديَني نفعًا(100)، وغير ذلك من الأخطاء التي كانت ستتبدّد لو تمهّلت الكاتبة، وراجعت الرواية بدقّة أكثر.

وبعد؛ فرغم كلّ ما ذكر من مآخذ على هذه الرواية، فإنّها تشكّل قفزة نوعيّة في أدب المرأة العربيّة محلّيًّا وعربيًّا؛ لما فيها من تناول موضوعات واقعيّة، إضافة لجرأة الكاتبة على طرح مضامين محظورة كالجنس، نقد مؤسّسة الزواج، عرض صور سلبيّة للرجل، هيمنة المرأة على عالم النصّ، ناهيك بما توظّفه الكاتبة من تقنيّات فنّيّة وجماليّات أسلوبيّة تضمن لها خلخلة المنظومة الأدبيّة الذكوريّة؛ الأمر الذي يجعلنا نستشرف مشروعًا روائيًّا يُبَشِّرُ بالكثير!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب