news-details

منذ المتوكِّل وحتَّى يومنا هذا | سعود قبيلات

جاء «المتوكِّل» إلى سدّة الخلافة، في عاصمة العبَّاسيين (بغداد)، بعد ثلاثة خلفاء تبنّوا مذهب المعتزلة وجعلوه المذهبَ الرَّسميَّ للدَّولة. وكان مذهبُ المعتزلة – كما هو معروف – يُعلي مكانةَ العقل، ويشجِّع التَّفكيرَ الفلسفيَّ، ويهيِّئ مناخاً مؤاتياً لتنمية المعرفة وازدهار العلوم. ولذلك، ازدهرت، في عهدهم، العلومُ والأفكارُ الفلسفيَّةُ والتَّرجماتُ عن اللغات الأخرى، وخصوصاً عن اللغة الإغريقيَّة.

أولئك الخلفاء الثَّلاثة هم: المأمون والمعتصم والواثق. وبخلافهم، كان المتوكِّل (847-861 م) الَّذي افتتح ما عُرِفَ بعصر الانحطاط لتتردَّى أحوال الأمّة بعد ذلك باطِّراد. فما إنْ تولَّى السُّلطةَ، بعد وفاة أخيه الواثق، حتَّى «أمر بترك النَّظر والمباحثة في الجدل والتَّرك لما كان النَّاس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر النَّاس بالتَّسليم والتَّقليد. وأمر الشّيوخ المحدّثين بالتَّحديث وإظهار السُّنّة والجماعة» [كما يقول المسعوديّ].

وقد شنَّ المتوكِّل حرباً شعواء على المعتزلة.. جماعة عمّه المأمون ووالده المعتصم وأخيه الواثق. وبالمقابل، قرَّب إليه أحمد بن حنبل وكرَّمه. وكان ابن حنبل في عهد الخلفاء الثَّلاثة السَّابقين المنتمين إلى فكر المعتزلة محارَباً مضطهَداً؛ فإمّا هو رهين السِّجن أو رهين الإقامة الجبريَّة والاعتزال القسريّ للنَّاس؛ الأمر الذي عُرِفَ بـ«محنة ابن حنبل». والمفارقة، هنا، هي أنَّ المتوكِّل أنهى ما سُمِّي «محنة ابن حنبل»، وأدخل الأمَّة كلّها في محنة.. مِنْ يومذاك وحتَّى يومنا هذا.

«وفي سنة خمسٍ وثلاثين ألزم المتوكِّل النَّصارى بلبس الغلّ. وفي سنة ستٍّ وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدّور، وأن يُعمل مزارع، ومُنِع النَّاس مِنْ زيارته، وخُرِّبَ وبقي صحراء». [الإمام جلال الدّين السّيوطيّتاريخ الخلفاء – ص 347]

ويقول عليّ الورديّ في كتابه «وُعَّاظ السَّلاطين» [الطَّبعة الثَّانية، الصَّادرة عن دار كوفان في العام 1995]:

«لا مراء أنَّ المتوكِّل كان مِنْ أظلم الخلفاء ومِنْ أكثرهم عربدةً ودناءةً وسفكاً. وقد سمَّاه بعض المستشرقين (نيرون الشَّرق)».

لكنَّ أنصار التَّشدّد الدّينيّ – في زمانه وما بعده.. بل وحتَّى الآن – بجَّلوه (ويبجِّلونه) كثيراً وأشاعوا ويشيعون حوله الكثير من القصص الَّتي تتحدَّث عن «بركاته» و«كراماته». لأنَّه، برأيهم، «أظهر السّنَّة بعد البدعة».

ويقول الورديّ، أيضاً، في كتابه الَّذي سبق ذكره:

«وممّا تجدر الإشارة إليه أنَّ مصطلح [أهل السّنة والجماعة] لم يظهر في التَّاريخ إلّا في أيَّام المتوكِّل».

بل إنَّ عهد المتوكِّل – بحسب الورديّ، أيضاً، وفي كتابه ذاك نفسه – قد أسَّس لما هو أخطر مِنْ ذلك وأشدّ ضرراً؛ حيث:

«كان خلفاء بني العبَّاس، قبل المتوكّل، يبذلون جهوداً طائلةً في سبيل جذب الفقهاء وأئمّة الدّين إليهم فلم يفلحوا – كما رأينا جاء المتوكِّل فاستطاع بضربةٍ واحدةٍ أنْ ينجز ما لم يقدر الدُّهاة قبله على إنجازه. لقد افتتح المتوكِّل عهداً جديداً في تاريخ الإسلام حيث صار الدّين والدَّولة نظاماً واحداً. وأخذ الدّين يؤيِّد الدَّولة بقلمه، بينما أخذت الدَّولة تؤيِّده بسيفها. ورفع النَّاس أيديهم بالدّعاء هاتفين: "اللهمَّ انصر الدّين والدَّولة". نزل الدّين بذلك – ولم ترتفع الدَّولة.»

إنَّها قصّة توظيف الدّين لأغراض سياسيّة، نفسها، الَّتي يمارسها الإسلام السِّياسيّ الآن.

وفي هذا السِّياق، نفسه، قيل إنَّ المتوكِّل اشترك في تأليف كتاب «الدّين والدَّولة» مع مؤلِّفه عليّ بن ربن الطَّبريّ. [مِنْ كتاب «أحمد بن حنبل والمحنة» - ولتر ملـﭬـيل ﭘاتون – ترجمة عبد العزيز عبد الحقّ (ص 12، وتحديداً، مِنْ المقدِّمة الَّتي وضعها المترجم للكتاب)].

 

أمَّا في ما يخصّ الأئمة والمحدّثين قبل المتوكِّل، فقد كانوا يحرصون على الابتعاد عن السُّلطة ورجالها؛ لكي لا يُطعن في صدقيَّتهم. جاء في المرجع السَّابق نفسه («أحمد بن حنبل والمحنة» ص 64 – 65) ما يلي:

«فإنَّ تقاليد المحدّثين في القرن الثَّالث الهجريّ كانت تقضي بمقاطعة كلّ محدّث يتّصل بالأمراء أو يتقلّد من السّلطان عملاً، إذ أنَّ هذا يجعله متّهماً في روايته»

وهنا، أعود إلى قول عليّ الورديّ «نزل الدّين بذلك، ولم ترتفع الدّولة»، فأسمح لنفسي بإجراء بعض التَّعديل عليه، فأقول: ليس الأمر أنَّ «الدَّولة لم ترتفع»، فقط؛ بل الصَّحيح هو أنَّها شرعتْ بالانحدار المتسارع أيضاً، منذ ذاك. وهو ما يدحض الوهم السَّائد، الَّذي تشيعه في أيَّامنا هذه فصائل «الإسلام السّياسيّ»، عندما تزعم بأنَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة والدَّولة العظيمة الَّتي قامت تلك الحضارة في كنفها، كانا مِنْ نتاج سلطة جعلت «الدّين والدَّولة نظاماً واحداً»، وأنَّ الأمّة انحطَّتْ وضعفتْ عندما تخلَّتْ عن تلك الصّيغة السّلطويّة المتجبِّرة.

على النَّقيض مِنْ ذلك، فإنَّه عندما أصبحت «الدَّولة والدّين نظاماً واحداً»، بعد انقلاب المتوكِّل على مذهب المعتزلة، لم يكن الفكر والعقل ومكانتهما هي وحدها الضَّحيَّة، بل أيضاً قوَّة الدَّولة وتماسكها ومهابتها؛ فمنذ ذاك بدأتْ الدَّولة بالتَّفكّك والاضمحلال، وراح أعداؤها يتجرَّؤون عليها ويقضمون أشلاءها.

أتذكرون صيحة «وا معتصماه!» الَّتي طالما قرأنا عنها في كُتُب التَّاريخ المدرسيّ؟

لقد كانت الاستغاثة الشَّهيرة تلك، الَّتي أطلقتها امرأةٌ أسرها الرّوم في عمّورية، موجّهة إلى المعتصم المعتزليّ نفسه. لم يخيِّب المعتصم ظنّها، كما هو معروف، فلبَّى استغاثتها بجيشٍ جرّارٍ ساقه على الرّوم. وطبعاً، في كتب التَّاريخ المدرسيَّة وفي الرّوايات التَّاريخيَّة الرَّائجة، يُغفلون حقيقةَ أنَّ المعتصم، مثله مثل أخيه المأمون وابنه الواثق، كان معتزليّاً.. لا علاقة له بالدَّولة الدّينيّة الَّتي يروِّجون لها الآن ولا بالمذاهب الدّينيّة الَّتي يتبنَّونها.

ولكن، الأهمّ مِنْ ذلك، هو حقيقة أنَّ الدَّولة كانت في عهود المعتصم (والد المتوكِّل) والمأمون (عمّه) والواثق (أخوه) تذود عن جميع ثغورها بحزمٍ واقتدار؛ كما هو واضح مِنْ تلك القصَّة الشَّهيرة عن الحملة التَّأديبيَّة الَّتي شنَّها المعتصم على الرّوم عندما اعتدوا على «عمّورية». وقد خلَّد أبو تمَّام – كما هو معروف – تلك الحملة بقصيدته الشهيرة «السَّيف أصدق إنباءً من الكُتُبِ»[1].

تسلّم المتوكِّل السّلطة بعد وفاة أخيه الواثق، فكيف كان حال الدَّولة الَّتي تسلّمها المتوكّل من الواثق وكيف كان الواثق نفسه بالمقارنة مع المتوكِّل؟

حَكَمَ الواثق خمس سنوات، امتدّت سيطرة الدَّولة العبّاسيّة خلالها حتَّى بلغت جزيرة صقلية. وكان مِنْ أهل الحديث. كما كان شاعراً وعلى دراية واسعة بالغناء، بل إنَّه أتقن الغناء والتَّلحين وضرب العود ورواية الأشعار والأخبار، ورعى العلم وشجّع العلماء. وقد لُقِّب بالمأمون الصَّغير. بل إنَّه في صغره كان مقرّباً جدّاً مِنْ عمّه المأمون. وقال حمدون بن إسماعيل: «ما كان في الخلفاء أحدٌ أحلَمَ من الواثق ولا أصبَرَ على أذىً». وقد عزل كلّ مَنْ فسد وأفسد من الولاة، وصادر الأموال الَّتي استولوا عليها بهيلمان السُّلطة وبطشها. تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ الحلم هو أيضاً إحدى أبرز الصِّفات الَّتي اتَّصف بها عمّه المأمون. وقد دوَّن الرّواة الكثير من القصص الَّتي تؤكِّد رسوخ هذه السّمة الحميدة عنده.

أمّا في عهد المتوكِّل، الَّذي ما إنْ جاء إلى السُّلطة حتَّى «أمر بترك النَّظر والمباحثة في الجدل والتَّرك لما كان النَّاس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر النَّاس بالتَّسليم والتَّقليد. وأمر الشّيوخ المحدّثين بالتَّحديث وإظهار السّنة والجماعة»، فلم تعد الدَّولةُ العربيّةُ الإسلاميّةُ قويّةً ومنيعةً ومُهابة..

الرّوم، أنفسهم، الَّذين أدَّبهم المعتصم في واقعة عمورية، قاموا بغزوٍ مفاجئ لأراضي الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة، مِنْ جهة دمياط، في عهد المتوكِّل (سنة238 هـ)، وقتلوا الكثير مِنْ أهلها، وحرقوا مسجدها، وأسروا نحو ستمائة امرأة مِنْ نسائها، وأخذوا الكثير من المال والسّلاح والعتاد، وفرَّ النَّاس أمامهم هلعين، وبعد ذلك تمكَّن الجنود الرّومان من العودة إلى بلادهم منتصرين.

وربّما تكون إحدى النِّساء الأسيرات قد صاحت مستغيثة: وامتوكِّلاه!

لكن ما مِنْ مستجيب.

وبعد ثلاث سنوات، عاد الرّوم فغزوا ثغراً مِنْ ثغور الدَّولة العبَّاسيَّة كان يُسمَّى «عين زربة» في تركيا، في منطقة كان الرَّشيد قد حصَّنها، وأسروا مِنْ هناك بعض النِّساء والأطفال، واستولوا على بعض المتاع.

بل إنَّ الأحباش جرَّبوا حظَّهم، هم أيضاً، مع دولة المتوكِّل، فهجمتْ جماعة منهم كانت تُعرَف باسم «البجة» على منطقة في النَّوبة في مصر، وأسرتْ بعض نسائها وأطفالها، وكرَّرتْ ذلك مراراً وتمادتْ فيه إلى أنْ بلغت الصَّعيد، قبل أنْ تلقى ردّاً متلكِّئاً مِنْ جيش المتوكِّل.

وفي مقابل انغلاق المتوكِّل وتشدّده، تخطر في البال صورة الانفتاح الباهر وتفتّح الذّهن الواسع اللذين عُرِفَ بهما عمّه المأمون..

جاء في كتاب الفهرست لابن النَّديم «أنَّ المأمون رأى في منامه كأنَّ رجلاً أبيض اللون مشرّباً حمرةً واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرَّأس أشهل العينين حسن الشَّمائل جالسٌ على سريره. قال المأمون: وكأنّي بين يديه قد مُلئتُ له هيبةً. فقلت مَنْ أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررتُ به، وقلتُ: أيّها الحكيم أسألك؟ قال: سل. قلتُ: ما الحسن؟ قال: ما حسُن في العقل. قلتُ: ثم ماذا؟ قال: ما حسُن في الشَّرع. قلتُ: ثم ماذا؟ قال: ما حسُن عند الجمهور. قلتُ: ثم ماذا؟ قال: ثمّ لا ثَمّ».

ويُلفتُ النَّظر في هذا النَّصّ:

أوَّلاً، الصّورة الجميلة والمهيبة الَّتي رأى المأمون أرسطو عليها في الحلم، والسّرور الَّذي أصابه عندما رآه؛

ثانياً، التَّبجيل الكبير وغير المتحفِّظ الَّذي أبداه هذا الخليفة المسلم لذلك الفيلسوف الإغريقيّ غير المسلم؛

ثالثاً، مع أنَّ هذا الخليفة كان يرأس الدَّولة الأعظم في العالم – آنذاك – إلا أنَّه جلس مجلس التّلميذ أمام الفيلسوف الكبير، وراح يستأذنه في أنْ يسأله عن رأيه في بعض المسائل الفلسفيّة الَّتي تشغل باله.

وهذا كلّه يُسجَّل للمأمون وفكره. ولكن، لا غرابة في ذلك؛ فهو عُرِف بحبّه الشَّديد للعلم.. حتَّى قيل: «لو لم يكن المأمون خليفةً لصار أحد علماء عصره».

وقد أرسل المأمون المبعوثين إلى الهند وبيزنطة وفارس لِجلب الكتب مِنْ هناك، وشجَّع التَّرجمة عن اليونانيّة والفارسيّة والسّريانيّة والهنديّة والآراميّة والقبطيّة.

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ المتوكِّل وُلِدَ مِنْ أُمٍّ تركيَّة، وفي عهده ازداد نفوذ الأتراك وسيطرتهم على مقاليد الدَّولة. ومع ذلك، فمن المفارقات القاسية أنَّ نهايته كانت على يديهم.. هم بالذّات. يقول السّيوطيّ: «اتَّفق الأتراك مع المنتصر (ابن المتوكلِّ) على قتل أبيه، فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوه، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان، وذلك في خامس شوَّال سنة سبعٍ وأربعين ومائتين». [تاريخ الخلفاءالإمام جلال الدّين السّيوطيّ – ص 350]

وبهذا، اعتلى «المنتصر» عرشه على دماء أبيه.

بقي أنْ نقول: ثمَّة مكوِّنان تاريخيّان ينتسبان إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة، هما:

مكوّنٌ تندرج فيه ثقافة الانفتاح على الثَّقافات الأخرى والأفكار المختلفة، وهو ما أدَّى إلى الازدهار العلميّ والفكريّ للحضارة العربيّة الإسلاميّة. وإلى هذا المكوّن ينتمي: المعتزلة (وخلفاؤهم الثَّلاثة) والكنديّ والفارابيّ وابن رشد وابن المقفّع والجاحظ والحلّاج وأبو حيّان التَّوحيديّ والمتنبِّي وأبو العلاء المعرّيّ وابن عربيّ وأمثالهم. وما أنتجه هذا المكوِّن بالذَّات هو الَّذي حظي ويحظى بالاحترام والتَّقدير لدى المفكِّرين والباحثين في العالم كلّه.

ومكوّنٌ آخر وضعه المتوكِّل في الصَّدارة ابتداءً من القرن الثَّالث الهجريّ، وتندرج فيه ثقافة الانغلاق والانحطاط والتَّشدّد الدّينيّ.. وينتمي إليه كلُّ أولئك الَّذين كفَّروا المعتزلة والكنديّ وابن رشد والفارابيّ وابن المقفَّع وأبا حيّان التَّوحيديّ وابن عربيّ.. الخ، وحاربوا أفكارهم، وبذلوا قصارى جهودهم مِنْ أجل شطب إنجازاتهم.

وبناء عليه، عندما يتكلَّم أحدٌ عن الحضارة العربيّة الإسلاميّة، فإنَّه مُطَالَبٌ بأنْ يوضِّح أيَّ هذين المكوِّنين يقصد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1] قال أبو تمَّام في قصيدته الشَّهيرة تلك عن حملة المعتصم الحربيّة في عمّورية:

«السَّيف أصدق إنباءً من الكُتُبِ   في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعبِ

بيض الصَّفائح لا سود الصَّحائف في متونهنّ جلاء الشّكِّ والرّيَبِ».

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب