news-details

نصُّ هادي العلوي الفصيح| عبد الرزاق دحنون

في يوم خريفي حزين من عام 1998 مات هادي العلوي البغدادي ابن كرادة مريم بنت عمران أو الكرادة الغربية الحيُّ البغداديُّ، العريق الذي يقع في وسط بغداد ويمتد من جسر الجمهورية إلى الجسر المعلق، ودفن في مقبرة الغرباء في حيّ السّيدة زينب في دمشق العاصمة السوريّة. وقد ترك بذلك الموت المُبكّر فراغاً، أو لنقل حيزاً فكرياً في الثقافة العربية المُعاصرة لم يستطع شغله من بعده شاغل. فأنت لن تجد من المفكرين العرب -بكلّ تأكيد- من يقول لك: "إن سرّ الأسرار في هذه السياسات العربيّة الرّاهنة العرجاء أو قُل "الكسيحة" أن الحاكم يريد أن يفكر ويعمل بالنيابة عن جميع الخلق، وما أن يقعد قائد "الدولة والمجتمع" على كرسيّ القيادة حتى يكتسب صفات القدسيّة ويتحرك على قاعدة "كن فيكون". ويمكن التوصل من الاستقراء الميدانيّ لتجارب الحكّام أن القصور العقليّ يلازم أهل الدولة، وأن ما يُصيب البلاد والعباد من الكوارث هو في بعض أسبابه من نواتج هذا القصور العقليّ للحُكّام. والفعل الكارثي للدولة يأتي في المقام الأول من نذالة حُكّامها ولصوصيتهم وانحرافهم الأخلاقيّ وخساسة رغباتهم وبالجملة من صغر نفوسهم".

 

ولكن يا هادي ما تفسير ذلك؟

في الجواب يقول:

"عندي أن نفس الحاكم يجتمع فيها من الشر ما "تفرّق" في نفوس الأفراد، وتفسيره أن وجوده في السلطة يجعله قادراً على استيفاء صفات الشرّ والفساد بسبب زوال الرّادع الذي يجعل الفرد العاديّ يخاف من التهمة والحساب إذا اجتمعت فيه هذه الصفات، وخوف الفرد العاديّ يكون من الناس والسلطة القضائيّة، والحاكم لا يخاف منهما. ومن المعتاد أن يتصرّف الحاكم بوصفه قوّة ردع ضدّ المخالفات القانونيّة والأخلاقيّة، ممّا يتيح له الانفراد بالشرّ والعدوان لكونه آمراً لا مأموّراً".

ومن ينظر اليوم بجديّة في تكوين شخصيّة "الحاكم العسكري خاصة" ويسبر أغوار هذه النفس الآثمة يجد خواء يسدّه البطش. فقيرة وصغيرة هي نفس "الحاكم" التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان. فقيرة يا أبا العلاء المعري هي تلك النفوس التي لا تُخفف الوطء لأنها لا تدري أن أديم الأرض من هذه الأجساد.

 

/////صدر

صَــاحِ هَــذِهْ قُــبُــورُنَــا تَــمْـلَأُ الـرُّحْـ ـبَ

خَــفِّــفِ الْــوَطْءَ مَــا أَظُــنُّ أَدِيــمَ

وَقَـــبِـــيــحٌ بِــنَــا وَإِنْ قَــدُمَ الْــعَــهْـ ـدُ  

سِـرْ إِنِ اسْـتطَـعْـتَ فِـي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا

رُبَّ لَــحْــدٍ قَــدْ صَــارَ لَــحْــدًا مِـرَارًا

 

/////عجز

فَــأَيْـنَ الْـقُـبُـورُ مِـنْ عَـهْـدِ عَـادِ؟

الْـأَرْضِ إِلَّا مِــــنْ هَــــذِهِ الْأَجْــــسَــــادِ

هَـــــــوَانُ الْآبَــــــاءِ وَالْأَجْــــــدَادِ

لَا اخْــتِــيَــالًا عَــلَــى رُفَـاتِ الْـعِـبَـادِ

ضَـــاحِـــكٍ مِــنْ تَــزَاحُــمِ الْأَضْــدَادِ

 

غالباً ما يتعاطف الناس على امتداد رقعة الوطن العربيّ مع هذه النصوص الفصيحة الواضحة، وسواء صدرت في كتب أو نشرتها الصفحات الفكريّة والثقافية في الجرائد والدوريات العربية -هذا إذا وجدت طريقها للنشر- وأسباب شتى تسوغ تعاطف القارئ العربيّ مع النصّ الفصيح، قد يكون أخطر الأسباب على الإطلاق رغبة الإنسان "العربي الجديد" في "كسر" المنهج المألوف الذي تعوده في حياته اليومية، ويضطر الناس إلى بذل الجهد الاستثنائي من أجل تغيير النمط الحياتي السائد في الفكر والمسلك. وهذا ما فعله الشباب في "الربيع العربيّ" في الميادين والساحات، أما نجاحهم أو فشلهم في ذلك، فلا يتحمل وزره لا هم ولا هادي العلوي، لأن فكره كان هادياً ومحرّضاً على التغيير، وكانوا كالكواسر في انقضاضها. وكان ما كان مما لست أذكره/ فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر.

يقول هادي العلوي: هناك قاعدة فكرية خطيرة ترجع إلى "كونفوشيوس" وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية: "إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق جاروا وسرقوا".

مما كتب حول مثقفية المعارضة نقتطف ما يلي، وفي ظني لا أحد غير هادي العلوي يستطيع قول هذا. وتجد المقال كاملاً في كتابه (المرئي واللا مرئي في الأدب والسياسة) وهي مقالات مارقة رفضت الصحف العربية نشرها في وقتها. يقول:

المعارضة بمعناها العام تحركٌ منظم لإسقاط سلطة غير فاضلة: يعني سلطة غير وطنية والبلاد تواجه تحدياً أجنبياً، أو سلطة غير شعبية والشعب جائع ومحروم من حقوقه الأساسية.

وقد ينزل المثقف بنفسه إلى ساحة المعارضة السياسية أو العسكرية كما فعل الحلاج قديماً والبلاشفة في هذا العصر. وهؤلاء البلاشفة كانوا في جملتهم من المثقفين إلى الحد الذي يجيز لنا وصف الثورة البلشفية بأنها ثورة المثقفين.

إن الضرورات والاعتبارات التي أوجدت مثقفية المعارضة في عصور الصين والإسلام يتكثف حضورها في أيامنا هذه وتملك نفس الضغط الباعث على الفعل. والدولة التي يجب معارضتها دولتان: الدولة الفاسدة/الخائنة، ومثالها دول الجامعة العربية في مجموعها الكلي. على أن تعبير المعارضة بخصوص هذه الدول مجازي أكثر منه أصلي فالمعارضة بمفهومها المعاصر سياسة قائمة على النقد وعدم التعاون. وهذه الدول لا يكفيها النقد وعدم التعاون بل يجب النضال مع القوى الوطنية والشعبية لإسقاطها. فالمقاومة أولى بالاستعمال هنا من المعارضة. هذه الدول معادية للشعب وحقوقه وللوطن وسيادته فهي جزء ملحق بالمعسكر الغربي بوصفه عدونا الأوحد. ومحاربتها واجب كمحاربة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة والصهيونية ودولتها إسرائيل. ألا ترون كيف أخذت العلاقات مجراها الطبيعي بين دول الجامعة العربية وبين هذا المعسكر.

المعارضة تكون لأنظمة من طراز آخر. أنظمة وطنية معادية للاستعمار والصهيونية، أو أنظمة شعبية معادية للرأسمالية. المثقف يعارض هذه الأنظمة ولا يعاديها وقد يجد حاجة للدفاع عنها ضد التآمر عليها من المستعمرين في الخارج أو الرأسماليين المحليين. إلا أنه لا يندمج فيها. لأن اندماج المثقف في الدولة يجلب الضرر عليه وعلى الدولة الوطنية أو الشعبية؛ عليه لأنه يفقده مثقفيته ويجعل منه داعية. أو يقيد تفكيره بوظيفته الإعلامية أو الإيديولوجية في أحسن الأحوال.

شرط المثقف عند هادي العلوي هو: مناهضة الظلم، والعمل على إقامة العدل الاجتماعي، والنأي عن الحُكَّام وعدم العمل معهم، والدفاع عن المستضعَفين من كلِّ جنس ودين، والاستقلالية القائمة على عدم حبِّ المال، والروحانية، أي التجرد عن اللذائذية. وهو القائل أجوع مع الجائعين فذلك هو شرط المعرفة، والتحف المنافي فذلك هو شرط الحرية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب