news-details

نفتقد البدر الواضح| محمد بركة

رئيس لجنة المتابعة العليا

قالت العرب: "في الليلة الظلماء يفتقد البدر"، ونحن منذ عام وأكثر، نفتقد البدر الواضح الذي يسطع في سماء حياتنا وضوحًا ونقاء، بدر محمد نفاع.

أذكر ذات مرة صادفت شخصًا لم أعرفه من قبل، تحدثنا قليلًا ونحن نتناول الطعام في أحد مطاعم حيفا، وسألني عن أبي هشام، وبدأ يمدح أبا هشام، فقلت له: إذا اعوجّت المسطرة، عليك أن تصلحها بناءً على محمد نفاع. هذه الشيمة وهذه الميزة لازمته طوال حياته، الاستقامة والوضوح والمبدئية.

محمد نفاع هو الأمين العام الأول للحزب بعد القيادة التاريخية، وقد تولى هذه المهمة في واحدة من أدق المراحل التي واجهها حزبها وشعبنا وحركتنا الأممية، أذكر قبيل انتخابه أننا كنا نتشاور ونتداول ونتساءل من يمكن أن يتولى هذه المهمة الجسيمة بعد القيادة التاريخية بعد توفيق طوبي وماير فلنر، ووقع اختيار اللجنة المركزية في حينه على الرفيق أبي هشام، فكان نعم الاختيار، بالأخص قياسا لتلك المرحلة، مرحلة ما بعد انهيار النظام الاشتراكي في العالم، والارتباك الذي عم الحركة الشيوعية بعد بيريسترويكا غورباتشوف، والأوضاع الإقليمية وبدايات أوسلو، والوضع الداخلي في الحزب الذي لم يكن على ما يرام في ذلك الوقت، حيث كان هناك اختلاف حقيقي، فوضعت الأمانة في يد أبي هشام، فكان نعم من حملها، وكنت أنا في حينها سكرتيرا للجبهة، وقُيد لنا أن نعمل سوية في تلك المرحلة القاسية والصعبة.

لم يكن محمد نفاع مهتمًا بهندامه، لكن أكثر من ذلك وأهم من ذلك، فإن مواقفه لم تكن مواقف موضة، لم تكن مواقف عرض أزياء لأغراض ذاتية، إنما كانت مواقفه راسخة على صخرة فكرية لا تهادن، نعم للاشتراكية ونعم للأممية ونعم للعدالة الاجتماعية، ونعم لحق الشعب الفلسطيني في الدولة والعودة، ونعم للمساواة القومية والمدنية لأبناء شعبنا هنا في الداخل. ولكن مقابل هذه النَعَم كان هناك لا حاد، لا للرأسمالية والإمبريالية والصهيونية على اختلاف ألوانها، ولا للرجعية العربية التي تواطأت على شعوبها وتواطأت على شعبنا العربي الفلسطيني.

في يوم 24 تموز من العام الجاري، كانت قد مرت مئة عام على صك الانتداب الذي منحته عصبة الأمم التي سبقت الأمم المتحدة لبريطانيا، لكي تتولى "إدارة فلسطين" بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ذلك الذي لم يأتِ ليأخذ بيد الشعب الذي يعيش في فلسطين من أجل تهيئته لحق تقرير المصير أو للاستقلال، إنما كان مكتوبًا بصريح العبارة أن هذا الانتداب أو "التخويل" الذي أعطي لبريطانيا جاء من أجل تنفيذ وعد بلفور بالحرف، ومن أجل إقامة وطن قومي لليهود مع حفظ الحقوق الدينية والمدنية لغير اليهود، وكانت وقتها نسبة اليهود على أرض فلسطين أقل من 10%، ونسبة العرب الفلسطينيين أكثر من 90%، والمقصود بصك الانتداب كان هو أن يجري تنفيذ المؤامرة التي حيكت ضد شعبنا الفلسطيني على مدار سنوات كثيرة، منذ زمن قبل عام 1922، لذلك عندما كان أبو هشام يتوقف عند دور الرجعية العربية والإمبريالية، ويؤكد على دور الرجعية العربية والإمبريالية والاستعمار البريطاني والرأسمالية البريطانية، كان يعلم تمامًا أن ما حدث للشعب الفلسطيني لم يكن خطأً في مسار تاريخي ما، إنما كان مخططًا بالكامل من أجل الإجهاز على حقوق الشعب الفلسطيني. وفي يوم هذه الذكرى المشؤومة، عقد المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله ندوة عبر تطبيق زوم، وقد شاركت بدوري في هذه الندوة، حيث قلت بأن الغرب خلق المسألة اليهودية ولكن اختلف الرأسماليون والغربيون في طريقة حلها جزء رأى الحل في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وإخراجهم من أوروبا، وقسم آخر- هتلر- رأى أن حل المسألة اليهودية هو الإبادة، بمعنى أن اللاسامية هي ليست فقط حرب الإبادة المجرمة التي خاضتها النازية، إنما شكل من أشكال اللاسامية هو إخراج اليهود من أوطانهم زرعهم في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني. هذا الأمر كان واضحًا تمامًا لأبي هشام، لذلك كان هناك إصرار على أداة النضال المركزية، وهي هذا الحزب - الحزب الشيوعي.

الحزب الشيوعي هو ليس هدفًا بذاته، إنما هو معول الثورة، وهو أداة الثورة، وهو بيت المناضلين، ويجب ألا تختلط الأمور عليه في سياق البراغماتية السياسية أو البراغماتية الانتخابية. إن البراغماتية أحيانًا ضرورية في سياقات ما، وتكون عملية في بعض الظروف، لكن إذا زادت عن حدها تصبح انتهازية، وإذا توغلت أكثر تصبح خيانة؛ فلا يمكن أن يكون تحصيل الميزانيات والحقوق المدنية بالتحالف مع الحركة الصهيونية، والسياسة التي تتبناها الحركة الصهيونية ضد شعبنا هي ليست سياسة خرجت عن مسارها ودخلت في طريق عنصري، إنما هي في صلبها مبنية على العنصرية.

كان أبو هشام سياسيًا ملتزمًا، ورفيقًا كاملًا بمبدئيته، وكان أيضًا كاتبًا مبدعًا، وأحيانا يتساءل بعض الكتبة البرجوازيين كيف يمكن لسياسي أن يكون مبدعًا، ولكن أنا أقول إن كبار مبدعي البشرية على مر التاريخ كانوا محسوبين على اليسار، مثل لوركا ويانيس ريتسوس ونيرودا وماركيز وإلوار وبيكاسو وحمزاتوف وناظم حكمت وغيرهم... والذين يقولون إنه لا يتناسب الموقف السياسي أو العمل السياسي مع الإبداع الأدبي هم عمليًا يريدون تحويل الإبداع الأدبي إلى ترفٍ غير فاعلٍ على ساحة المجتمع، يريدون من الإبداع أن يكون شكلًا من أشكال التزلف والهواية الذاتية، وليس محرضًا دافعًا صائنًا للثقافة وللموقف. محمد نفاع كاتب مبدع، وكانت كتاباته مشروعًا أساسيًا في هزيمة الحركة الصهيونية، الحركة الصهيونية التي أرادت إخفاء معالم هذا الوطن، ومسمياته ونباتاته وأشجاره ومناطقه، فجاء محمد نفاع وثبتها في أدبه بشموخ نادر أشبه ما يكون بشموخ الجرمق جار العمر. محمد نفاع والجرمق جاران فخوران، قمتان في فلسطين.

كان محمد نفاع فلاحًا، أحب الأرض التي كلما التصق بها أكثر ازداد شموخًا وسموًا ورفعةً، لذلك عندما نلتقي اليوم لنذكره في سنويته الأولى، حري بنا ألا يكون كلامنا مجرد صياغات إنشائية، إنما يجب أن يكون خيارًا يتمسك بالطريق. وأنهي كلامي باقتباسين لمحمد نفاع، الأولى يقولها عن شعبه، والثانية عن نفسه:

في قصة "الأرض موصدة بأهلها" يقول محمد نفاع: "رأيت الناس في بلادنا، يقفون على الصخر في مواجهة الزحف والمصادرة، يطبون على الصخر بأرجلهم، الصخر ثابت ماكن، وطب الأقدام امكن، يسدون أبواب المغاور والكهوف والدحانيس بأجسادهم القوية الصامدة، حيث توحمت أمهاتهم على الصخور والسنديان، من أجل بقاء المغاور كما كانت وكما يجب أن تكون، يعزلون أجران المياه من الحجارة والوحل، يطوعون المعاصي صاغرة حتى تنبت القمح، فتفعل هاشةً باشةً معطاءةً، يتصدون كتفًا إلى جانب كتف، ومجن من الوحدة لا ينفذ، يعود الشيخ شابًا عنيفًا منتصبًا قاهرًا، يولد الطفل ورأسه إلى العلاء، يكبر رأسا للتحدي، يتطاير الشرر من عيون الأمهات والعذارى بلا تحفظ، إما أن نركب رأس الغول أو يركبنا، الكل يدفع عن البلد والأرض والرصد بأسنانهم، بأيديهم، بحجارة الصوان وأعواد السنديان، عرفنا جميعًا وليعرف الغول دفعة واحدة مرة وإلى الأبد، أن البلد فيها رصد، الأرض موصدة بأهلها".

وفي قصة "كوشان" يقول عن نفسه بضمير الجماعة: "بيننا وبين تلك الأمكنة وحدة حال، معرفة قديمة أصيلة، في الحال عشقت كل شيء فيها، الحجارة وغناء الأعراس، ورياح الأودية الناعمة الباردة، انقلبت إلى إنسان آخر، أنت لا تستطيع أن تفهم ذلك كما يجب، أريد أن أقف، أن أبقى، أن أقضي عمرًا بكامله، تحسست دفء الأشياء، أعب من الهواء قدرًا كبيرًا، أتحسس هؤلاء الناس، أعيش حياتهم كل يوم، يلهب وجهي لفح أنفاسهم في الأرض".

ونحن يجب أن نبقى أوفياء للأرض التي وهبتنا محمد نفاع. 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب