news-details

نوار العلت.. رائعة جديدة من روائع محمد علي طه | بروفيسور مصطفى كبها

أهداني مؤخرًا الصديق الكاتب محمد علي طه روايته الجديدة "نوار العلت"، وهي رواية صدرت عن دار الأهلية للنشر في عمان، وتقع في 249 صفحة من القطع المتوسط.

عنوان الرواية لافت للنظر وجاذب للاهتمام، لماذا العلت (أو العلك كما يسمونه في أواسط فلسطين وجنوبها) بالذات؟ والعِلْت نبتة من نباتات المطبخ الفلسطيني التي تجنى أوراقها من البرية في فصل الربيع وتطبخ، على الأغلب، على طريقة "الحوسة"، أما إزهاره فيأتي متأخرًا في شهر أيار ومعظم أصنافه أزهارها زرقاء بلورية جميلة، في حين هناك صنف واحد تكون أزهاره صفراء. أما العنوان فهو وصف أطلقته السيدة فاطمة أبو مراد (أم أحمد) على عيون فتاة يهودية اسمها يافة" جميلة" وقع في حبها ابنها سمير، طالب الحقوق في جامعة حيفا، وخطط للزواج منها.

ولكن هذا الزواج لم يتم بسبب قتل الفتاة من قبل عشيقها السابق وهو مستوطن يهودي متدين ومتزمت يعيش في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية.  وفي خضم التحقيقات حول مقتل الفتاة تتفاعل وتتقاطع أحداث الرواية وقضاياها المختلفة: العلاقات بين جمهور الأغلبية اليهودي ومؤسسات الدولة وبين الجمهور العربي، العلاقات بين اليهود الشرقيين، الذين يمثلهم الضابط ابراهام ذو الأصول العراقية واليهود الغربيون، الذين يمثلهم الضابط أوري ذو الأصول الرومانية. وبين جيل مؤسسي الدولة (الذي يمثله والد يافة، الضابط المتقاعد الذي يسكن حيفا)  وبين جيل "شباب التلال"  من غلاة المستوطنين (والذي يمثله نفتالي عشيق يافة السابق وزميلها في الجامعة) قضية العلاقة بين  مكونات المجتمع العربي المختلفة (أحمد وسمير أبو مراد وهما شابان ينتميان لأسرة لاجئة من قرية ميعار الجليلية  وكلاهما يمثل، مع الاختلافات بالاجتهادات وقراءة العمليات التاريخية الجارية، جيل الشباب الجامعي ذا المواقف اليسارية والعلمانية المتشبّث بهويته وأرضه والرافض لسياسات التركيع والإذلال  من جهة، ووالدتهما فاطمة المهجرة هي الأخرى من الطنطورة وهي مثال للجيل الثاني من المهجرين وهو جيل واجه ارتدادات النكبة ونتائجها بطريقته التي تجمع بين ضرورة  التعليم  والبحث عن الوظيفة المحترمة بواسطته فقد تعلمت في دار المعلمين وأصبحت معلمة يشهد  الجميع بفضلها على تربية أجيال عديدة من الطلاب على مدار ثلاثة عقود ونيّف. وإزاء المواقف الثورية لأبنائها كانت فاطمة بمثابة البوصلة للقيم الموروثة ووجوب الحفاظ عليها. 

وإذا كان بيت شعر للشاعر والقائد الراحل توفيق زياد يصور الواقع المركب الذي تعيشه الجماهير العربية الفلسطينية داخل إسرائيل، ويوجز مسيرة وحكاية أقلية قومية تعيش في وطنها تحت قمع واضطهاد دام عشرات السنين حيث قال:" أنا ما هنت في وطني ولا صغرت أكتافي وقفت في وجه ظلامي يتيمًا عاريًا حافي".

فإن رواية " نوار العلت"، تقوم بهذه الوظيفة خير قيام، حيث تلخص حياة جماهيرنا وقضاياها المصيرية بشكل قصصي سلس ومنساب وبطريقة سردية دقيقة تراعي أدق التفاصيل فيها دراسة واستقراء وتحليل معمق يستعمله الكاتب بشكل مهني مثير للإعجاب على ألسنة شخوص الرواية فتأتي معبرة عن مواقف طرفي الصراع والأطياف والشرائح المختلفة داخل كل معسكر من المعسكرين. وبين هذا وذلك يوشح الكاتب الرواية بلوحات رومانسية ويطعمها بزفرات حميمية ثم يضمنها بلقطات فولكلورية وتراثية فينتج أمامنا كولاج سردي مهني على خلفية فسيفساء زاهية ومتداخلة الألوان. 

في الخطوط العريضة لقضية الصراع، يحصر الكاتب وقائع احداث الرواية بين صيف 2000 (فشل محادثات عرفات -براك) وبين ما تلاها من أحداث وتداعيات عملت على تأزيم القضية بشكل تراجعت فيه أجواء اتفاقيات أوسلو وما رافقها من آمال. يبدو هذا واضحًا من خلال جدال الأخوين أحمد وسمير، فالأول كان معارضًا لاتفاق أوسلو منذ توقيعه وعند فشله "لم يأسف" وانتقد عرفات على توقيعه عليه) ص 16) وقد رأى به " اتفاقًا خاطئًا بأحسن الحالات مليئًا بالثغرات وبالعيوب، كما يرى فيه اتفاقًا حول القائد إلى أسير بل إلى رئيس بلدية" (ص 28). أما سمير فكان " يؤيد اتفاق أوسلو ويرى فيه إنجازًا للشعب الفلسطيني ويذكر عودة القيادة للوطن، كما يذكر أن عددًا كبيرًا من أبناء شعبنا قد عادوا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة كما أن الاتفاق حقق لشعبنا للمرة الأولى في تاريخه إقامة مؤسسات ودوائر ترعى شؤونه" (ص 28). هذه الخطوط تنعكس جيدًا في التفاصيل الدقيقة المشخصة لقضايا جماهيرنا من خلال ارتدادات الخطوط العريضة، فمن الواضح إبراز الكاتب لقضية العنف داخل المجتمع العربي والتي هي ناتج للخطوط العريضة لسياسات المؤسسة الإسرائيلية اتجاه هذه الجماهير، وقد جاء ذلك على شكل حوار جرى بين أحمد وأحد الشبان: "سأل أحمد يومئذ شابًا كان يقف بجواره: هل هذا سلاح مرخص؟ فأجابه: أي مرخص؟ وأي بلوط؟ يا رجل! هناك بندقية صيد مرخصة، هناك مسدس مرخص، وكلاهما مع العملاء والمخبرين. فسأله أحمد ثانية: ولكن زاهر يضع الكلاشن في السيارة ولا يخشى أحدًا، لا المخبرين ولا الشرطة؟ فرد الشاب: انت فهمان، ما دام السلاح بأيد عربية وضد أجسام عربية فالشرطة لا ترى ولا تسمع ولا تعرف. يعني بطيخ يكسر بعضه! ثم من يجرؤ أن يشكوه للشرطة؟  

هذه الخطوط العريضة للصراع نراها أيضًا في مواقف الشخصيات من المعسكر الآخر خاصة من قبل والد يافة (يوسف أهروني) وعشقها السابق (المستوطن نفتالي) وممثل المؤسسة (ضابط التحقيق أوري). فالأول ضابط مع ماضي عسكري عريض وخاصة في اجتياح القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية عام 1982، لا يحب العرب ولا يأمن جانبهم ومواقفه اتجاههم تعج بالآراء المسبقة ومع هذا فهو لا يؤيد مواقف الاحتلال والضم ويرى مصلحة دولته بالتنازل عنها (ص (105-107 ، أما الثاني فيعض الكاتب من خلال مواقفه مواقف المشروع الاستيطاني والعاملين على تعزيزه بكل الطرق والوسائل والعمل على ذلك من خلال خط عقائدي متطرف يرى فيما يفعلوه "رسالة إلهية" وتكليف بتنفيذ مشروع " تخليص الأرض"  من أيدي غير اليهود (الغوييم)، في حين لا يرى للعرب أي حق في فلسطين التاريخية (من البحر إلى النهر)  وينظر إليهم نظرة مقت واستعلاء لا مراء فيهما  وأن البحر له والفضاء والكروم والبساتين كلها له (ص 139). أما الثالث فتجسد مواقفه نظرة المؤسسة بشكل عام للعرب على أنهم متهمون أوتوماتيكيون إزاء كل جرم وهم في معظم الحالات لا يوثق بكلامهم ولا يؤمن جانبهم (ص 119).  

وإزاء تطور أحداث الرواية وحبكتها المبنية على هذه المواقف المتباينة والمتنافرة لأطراف الصراع، نرى الكاتب وبحرفية وجرأة واضحتين، يرسم العلاج من خلال خط عرضي يقطع خطوط الصراع العامودية المحرضة على التباعد وتأكيد الحدود الفاصلة، خط حب نشأ مصادفة على أرض تل " أبو الندى"  في جامعة حيفا بين سمير ويافة، حب جعل يافة تترك أحضان محب مستوطن وتلجأ إلى أحضان محب عربي يزاملها الدراسة في الجامعة، ولم يكن الانتقال من حضن إلى حضن انتقالًا عاديًا من محب لآخر، بل كان انتقالاً من واقع الاحتلال المتوغل في الضفة إلى واقع يعيش فيه العرب واليهود في واقع جدلي في حيزه العام، الانتقال من مستوطنة تقضم الأرض الفلسطينية إلى قرية ترسخ التواجد الفلسطيني، وقد واكب ذلك  تغيير جذري بالمواقف من مواقف مؤيدة للاستيطان والاحتلال إلى مواقف رافضة لهما ومتفهمة لمواقف الفلسطينيين على جانبي الخط المسمى بالخط الأخضر، وتغيير للمصطلحات وتليينها بالنسبة للعرب  (ص 138 -139).  ولكن هذا الحب لم يرق للأب الذي قبله على مضض، ورفضه المستوطن العاشق فتربص بها شرًا وفضل أن ينهي حياتها على أن تستمر فيه. حب رفضه عاذل وتربص به قاتل. وهي نتيجة ساهمت في تثبيت حبكة الصراع وتأكيد عدم جاهزية الأطراف للعلاج المقترح.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب