news-details

هل حقا إسرائيل غارقة في أزمة اقتصادية؟: عن خداع التقارير| برهوم جرايسي

بعد أيام من اندلاع أزمة انتشار فيروس الكورونا، والإعلان عن اغلاق الغالبية العظمى من المرافق الاقتصادية، والأسواق التجارية، بدأت "تقارير الرعب الاقتصادية" تنتشر في الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية، المملوكة من كبار أصحاب رأس المال، ووظيفتها أساسا خدمة حيتان المال. واختلاق راي عام داعم لهم.

فها هي التقارير تصرخ: البطالة ستتضاعف 4 مرات، العجز سيتفاقم إلى 10%. الديون العامة سترتفع بحوالي 25% مما كانت عليه. مؤسسة الضمان- "مؤسسة التأمين الوطني"- على شفا الإفلاس، وغيرها من استنتاجاتهم المبكرة. في حين أن الحكومة مساهم أساسي باختلاق هذا المشهد، تمهيدا لما هو آت: ضرب الشرائح الفقيرة والضعيفة، ليس إلا.

منعا لأي التباس في فهم القصد، يجب التأكيد على أن الأزمة الاقتصادية واقعة ومتشعبة. فلا يمكن أن تتوقف حركة الإنتاج والتجارة، من دون عواقب سلبية. أولها وقف الأعمال؛ وفي هذه، فإن الضحية الأساس هم الشريحة الفقيرة والضعيفة، من ذوي المداخيل المنخفضة، التي أصلا لا تكفي مداخيلها الاحتياجات الأساسية للعائلة.

ولا يمكن لأي مخصصات اجتماعية أن تعوضهم عما خسروه، خاصة أولئك الذين يقعون تحت أعباء الديون، إن كانت لأغراض استهلاكية عامة، أو قروض الإسكان، أو النفقات على البيت، من أجور، وتسديد فواتير البنى التحتية. فالعجز في التسديد، يعني مراكمة الديون والفوائد، لذا فإن هذه الشرائح ستجر أزمتها لفترة أطول، حتى بعد عودتها إلى مكان عملها.

وهناك نوعان من الأزمة الاقتصادية في القطاع الخاص، من أصغر مصلحة، إلى أكبرها، وصولا للاحتكارات. فهناك مصالح خدماتية صغيرة، أو متوسطة محدودة، نوعية ما تقدمه لا يمكن تعويضه بعد عودة الحياة الاقتصادية، وأصحاب هذه المرافق، هم الأقرب إلى الأجيرين. وتندرج هنا المطاعم وكل مرافق الطعام، وأماكن الترفيه وما إلى ذلك.

وفي المقابل، هناك مصالح اقتصادية، بضائعها وخدماتها استهلاكية، قادرة على التعويض، لأنها حاجة ممكن تأجيل استهلاكها، مثل قطاع الملابس والأحذية، والاحتياجات المنزلية، وحتى السياحة للشرائح المتوسطة وتلك الميسورة القادرة السياحة الداخلية والخارجية.

وما يراد منه في هذه المعالجة هو الاقتصاد العام، وما هو مرتبط بالميزانية العامة والمؤسسات الرسمية، وأهمها مؤسسة التأمين الاجتماعي.

فإذا تابعنا هذه التقارير الصارخة، نرى في سطورها الأخيرة استنتاجات ثابتة في جميعها: "الحكومة تبذر الأموال"، وهذه صيغة تستهدف المخصصات الاجتماعية لمن فُرضت عليهم بطالة، إما كلية، أو مؤقتة ليست مدفوعة الأجر. وعبارة: "يجب الإسراع في فتح القطاع الاقتصادي"، والهدف تسريع فتح الأسواق وشركات الإنتاج، ما يقلل ضرر الأزمة على أصحاب العمل، ولكن بشكل خاص على الشركات الكبرى.

والعبارة السحرية التي تدأب "الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية"، على جعلها شبه ثابتة يوميا، في كل تقرير ومعالجة: "الصرف على ما يدفع عجلة النمو"، وهذه القصد منها تقديم امتيازات مالية ضخمة وتسهيلات ضريبية لأصحاب العمل وكبرى الشركات، بزعم أنها تضمن أماكن عمل، وأن انتاجيتها هي التي تعيد عجلة النمو الاقتصادي، ولكن الهدف الحقيقي، هو أن لا تتراجع أرباح كبار المستثمرين وحيتان المال.

 

الاقتصاد الإسرائيلي في أزمات سابقة

رغم ما يظهر به الاقتصاد الإسرائيلي من قوة، وهي قوة نسبية ومقارنة بالمنطقة الجغرافية القائم فيها، إلا أن الكثير من خبراء الاقتصاد، يحذرون من ضُعف الاقتصاد الإسرائيلي على المستوى الأبعد، لأنه ليس اقتصادا متنوعا بالقدر الكافي، الذي يجعله يصمد أمام أزمات اقتصادية عالمية.

فالعنصر الأكبر للاقتصاد الإسرائيلي، هو العسكري، الذي حسب التقديرات يبلغ حجمه أكثر من 30% من حجم الاقتصاد، بشكل مباشر وغير مباشر، ويصب فيها هذا، القسم المتعلق بالعسكرة في قطاع التقنية العالية "الهايتيك".

كذلك فإن إسرائيل تظهر حتى الآن، كواحدة من "الدول الرائدة"، في قطاع الهايتيك، وهو محرك أساسي وكبير في عجلة النمو، ولكن يحذر خبراء من أن إسرائيل لن تبقى طويلا في هذه المكانة، ففي كل مرحلة ممكن أن تظهر لها منافسات قوية، وحينها سيتكشف ضعف الاقتصاد من ناحية عدم تنوع بالقدر الكافي.

وأيضا من مؤشرات ضعف الاقتصاد، هو أن إسرائيل لا تنتج وظائف سنوية، (أماكن عمل) بالقدر الطبيعي المطلوب، بموجب نسبة التكاثر الطبيعي. ولكن حتى الآن هذا لا ينعكس على نسب البطالة غير الواقعية أصلا، حسب ما يؤكده خبراء كثر. لأن إسرائيل تستفيد من عدم انخراط 7% ممن هم في جيل العمل.

وحينما نتحدث عن 7%، فهذا يعني 300 ألف مكان عمل، وهذا عدد متنامي سنويا. وهذا عدد أماكن عمل غير موجود، وحينما تتبجح الحكومة بعدم انخراط رجال الحريديم والنساء العربيات في سوق العمل بالنسب الطبيعية، فهي أصلا، ليس لديها هذا الكم من أماكن العمل في القطاعين الخاص والعام لتستوعبهم.

ومصدر نسبة 7%، يأتي من أن نسبة انخراط رجال الحريديم في سوق العمل تقل عن 50%، بدلا من 81% بين الرجال كنسبة عامة. كذلك فإن حرمان النساء العربيات من فرص عمل مناسبة، يجعل انخراطهن في سوق العمل بنسبة 38%. وعلى الرغم من أنه في السنوات الأخيرة هناك ارتفاع متواصل في نسبة النساء العربيات في سوق العمل، إلا أن وتيرة الارتفاع تبقى أقل من وتيرة ارتفاع المستوى الأكاديمي والمهني بين أوساط الأجيال الشابة العربية.

أضف إلى هذا أن نسبة عالية من العرب يضطرون للخروج الى تقاعد في عمر يسبق سن التقاعد، لكونهم عمالا في قطاعات عمل تتطلب قوة جسدية، مثل البناء والمهن الحرفية الأخرى.

قد يقال إن إسرائيل، كانت من الدول الأقل تضررا في الأزمة الاقتصادية العالمية، 2007- 2009، فقد انعكست هذه الأزمة على الاقتصاد الإسرائيلي لحوالي 9 أشهر، من الربع الأخير من العام 2008، وحتى نهاية النصف الأول من العام التالي 2009، حتى بدأت تتقلب المعطيات الاقتصادية "إيجابا" في النصف الثاني، ولاحقا من العام 2010 وبعده.

وأحد أسباب تلك الحالة، هو أن إسرائيل كانت قد خرجت من أزمة اقتصادية عصفت بها من العام 2001 وحتى منتصف العام 2003، بفعل عدوان الاحتلال على الضفة والقطاع، الذي جوبه بالانتفاضة الفلسطينية الثانية. وتبعت سنوات الأزمة تلك، خمس سنوات من النمو الاقتصادي العالي، ما جعلها قادرة على امتصاص تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية تلك.

وفي كل أزمة اقتصادية، إن كانت محلية أو عالمية تؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن الحكومة والمؤسسات المالية الرسمية، تسارع في اصدار التقارير السوداوية، وتطالب بشد الأحزمة، واتخاذ إجراءات استباقية لمنع اضرار الأزمة. ولكن هذه الإجراءات نراها دائما في اتجاه واحد: ضرب كل الميزانيات الاجتماعية، والبنى التحتية، عدا الاستيطان، ورفع ضرائب على الشرائح الوسطى، أساسا.

ولكن ولا في أي مرّة رأينا أن الحكومة تقرر رفع الضرائب على الشركات والمرافق الاقتصادية، التي هبطت تدريجيا من 34% حتى نهاية العام 1993، حتى 23% حاليا، والنية لتخفيض أكبر.

فهاي هي إسرائيل منذ العام 1993 وحتى الآن، غرقت إسرائيل في ثلاث أزمات، في العام 2001، وفي 2009، والحالية، ولا نسمع عن أي نية لرفع الضرائب على الشركات، لا بل خفضها أكثر، مقابل رفع ضريبة القيمة المضافة، ورفع ضريبة الدخل، من حيث عدم تعديل درجات الضريبة، وغيرها.

وهذه النسبة 11%، قياسا بحجم الاقتصاد الإسرائيلي، تعني مئات المليارات على مدى السنين، التي افتقدتها الخزينة العامة، ومؤسسة الضمان الاجتماعي- "مؤسسة التأمين الوطني"، وأيضا ميزانية التأمين الصحي، لأنه تم فرض سقف لرسوم الضمان والصحة، لذوي الرواتب العالية وللشركات، ما ساهم في محدودية ميزانيات الصحة، وما ساعد على انتاج جهازين للطب: واحد للأغنياء، وآخر للفقراء، الذين يتعمدون فقط على الخدمات الصحية الأساسية التي يشملها قانون الصحة العام.

وكلما نقصت الخزينة، فإن المتضرر الأساس هم الشرائح الفقيرة والوسطى الدنيا، بمعنى أننا نتحدث عن الدرجات الخمسة الدنيا الأولى في سلم تدريج الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية المكون من 10 درجات.

فلماذا على الحكومة أن تقلق، حينما تعرف أن 95% من العرب هم في الدرجات الأربعة الدنيا. وأن العرب يشكلون نسبة 80% على الأقل، ممن هم الدرجتين الدنيتين، فبعدهم يأتي المتدينون المتزمتون "الحريديم"، الذين يعيشون حياة تقشفية إرادية، وتمتنع غالبية رجالهم عن الانخراط في سوق العمل اراديا، لذرائع دينية.

 

الأزمة القائمة

تقول تقديرات بنك إسرائيل المركزي، إنه مع انتهاء الأزمة الصحية، وفي حال عادت وتيرة الاقتصاد كليا في شهر حزيران المقبل، فإن البطالة في نهاية العام الجاري 2020، سترسو عند 8%، بدلا من 3,8% في نهاية العام الماضي 2020، وبدلا من نسبة 26% في ظل الأزمة الصحية الاقتصادية القائمة؛ بفعل اخراج مئات الآلاف لإجازات ليست مدفوعة الأجر. ويتوقع البنك المركزي أن تنخفض البطالة حتى نهاية 2021 المقبل إلى 5%.

أما وزارة المالية فإنها تتوقع أن ينتهي العام الجاري عند مستوى بطالة يتراوح ما بين 9% إلى 13%. وكل تقارير وزارة المالية سوداوية، مثل أن العجز في الموازنة العامة سيرتفع من 3,7% من حجم الناتج العام، قبل نشوب الأزمة، إلى حوالي 10% عند نهاية العام الجاري. وكل 1% يعادل 14 مليار شيكل، وهو ما يعادل 4 مليارات دولار.

ولهذا فإن الوزارة تعتقد أن حجم الدين العام سيقفز من 60% من حجم الناتج العام، كانت حتى نهاية 2019، إلى 75% في نهاية العام 2020، وهي النسبة التي كانت عندها إسرائيل حتى العام 2010. ما يعني زيادة حجم الدين العام بـ 25% عما كان عليه عند نهاية 2019.

وكمن يتابع الشأن الاقتصادي، فإن وزارة المالية في كل الحكومات الإسرائيلية، لديها "موسم التقارير السوداوية"، وهو يبدأ عن بدء إعداد مشروع الموازنة العامة السنوية، لغرض خفض سقف توقعات الأحزاب المشاركة في الحكومة، وبالذات خفض سقف توقعات الجمهور باحتياجاته من الخزينة العامة، مثل رفع أجور، وزيادة مخصصات، وزيادة ميزانيتي التعليم والصحة، وغيرها.

وتقريبا كل ميزانيات إسرائيل تُعد على أساس توقعات سوداوية، وتتقشف في الأمور الاجتماعية، مقابل اغداق الأموال على الحرب والاستيطان، وعلى جمهور الأحزاب التي تشكل الحكومة، وبالذات جمهور الحريديم.

وحتى حينما ظهر في معظم السنوات الأخيرة، التي كان فيها النمو ما بين 3,3% وحتى 5,3%، وجباية الضرائب أعلى بنسبة 6% بالمعدل السنوي، وكان يظهر فائضا في الميزانية العامة، فإن القسم الأكبر من هذا الفائض، تبتلعه وزارة الحرب، وقسم آخر لتسديد ديون عامة، في غالبها صرفت على آلة الحرب.

لا يمكن تجاهل حقيقة أن خفض وتيرة الاقتصاد، من إغلاق معظم السوق التجاري، واغلاق شركات إنتاجية سيتسبب بضرر. كذلك لا يمكن أن نتجاهل أن الأزمة في دول العالم تنعكس سلبا على حجم التجارة العالمية، وبالتالي على الصادرات الإسرائيلية، التي هي محرك أساسي في النمو الاقتصادي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل الاضرار المتوقعة، هي بهذا الحجم الذي تطرحه وزارة المالية وحكومتها؟

 

ما بعد الأزمة

علمت تجارب السنين، أنه في كل فترة تشهد تراجعا في الاستهلاك وبالإنتاجية، وهي في فترات الحروب عادة، حتى الآن، فإنه بعد انتهاء الحالة، يأتي الصرف بوتيرة عالية، فالشريحة ذات القوة الشرائية الأكبر، وهي القوة الأساسية لحركة السوق، تكون قد وفرّت في جيوبها مالا، وهذه مسألة نسبية، وكل شريحة حسب وضعيتها الاقتصادية، ولهذا فإنها بعد انتهاء الإغلاق ستندفع إلى السوق لشراء احتياجاتها، وأيضا لترفه عن نفسها.

فمن قرر لنفسه شراء سيارة جديدة سيفعل، ومن احتاج لبضائع بيتية استهلاكية بدءا من الملابس، وحتى معدات البيوت وأدواته الكهربائية سيفعل. والشريحة القادرة على ارتياد المطاعم ومحلات الترفيه والنقاهة، ستفعل هذا بوتيرة أعلى. وفي الحالة العينية التي نعيشها، فإذا استمر منع السفر إلى دول العالم، أو ارتداع الناس عن السفر، فإنها ستتجه أكثر للسياحة الداخلية.

والمعادلة واضحة وثابتة: حينما يزداد الطلب، يزداد الإنتاج، في كل القطاعات. وحينها ستكون وتيرة حركة السوق والإنتاج، بعكس ما ترسمه وزارة المالية وحكومتها.

لم يتبق على العام الجاري سوى 7 أشهر، وهي فترة قصيرة في حسابات الاقتصاد، وحينها ستتكشف حقيقة التوقعات. ولكن في هذه الأشهر القليلة، ستكون الحكومة الجديدة، برئاسة بنيامين نتنياهو، ومعه بيني غانتس، قد أقرت ميزانيتي العامين الجاري والمقبل 2021.

وأكثر من هذا، فإنه بموجب اتفاقية الائتلاف فإن الحكومة ستعمل على إقرار ميزانية العام 2022، حتى نهاية الثلث الأول من العام المقبل 2021. ما يعني أن الحكومة ستعد ثلاث ميزانيات تقشفية استنادا لتقارير وزارة المالية السوداوية الحالية، ولن تنتظر لترى حقيقة نتائج الأزمة الصحية- الاقتصادية القائمة.

وحينما نقول تقشفية، فإنها تعني تسديد ضربات للشرائح الفقيرة، وأيضا الشرائح الوسطى، دون أي مساس بأصحاب رأس المال، ودون أي انتقاص من ميزانية الحرب لا بل زيادتها، ومثلها ميزانيات الاستيطان.

ما يعني، هو ما بدأنا به: الشرائح الفقيرة والضعيفة، والوسطى الدنيا، ستكون مطالبة، في العام الجاري والعامين المقبلين، على الأقل، بقطع اللحم الحي، لتسديد فواتير التقارير المضخّمة، حماية لمصالح وشراهة رأس المال.

ولذا فإن المعركة في هذا الشأن، عليها أن تتركز في جوهر السياسة الاقتصادية، وكيفية توزيع الموارد، وعدم الانشغال بتقارير وبيانات الرعب التي تبثها حكومة السلب والنهب، وأذرعها في الصحافة الاقتصادية، وكل ماكنة صناعة الرأي العام.    

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب