news-details

يا شوّامي يا رايحين الشام (1)| محمد نفاع

كل ما حدث، اورثته هذه الاغنية، بصوتها الربيعي الحنون، المتموج، يجعل القلب مولعا مولِّعا كحرّ المشمشيات الدافق، شظايا لهبية بلا رحمة ولا رأفة.

الكون، الأرض والسماء، يرفل في سمرة شهية شائقة سمرته حلوة كالصبايا الجبَليات، فجر واجم، كأنه يتسمّع الى حكاية عذبة مشرشَرة، وينصت الى أنغام تتغلغل في شغاف وشِعاب القلب العامر الفَتي، منبعثة من الجبال الرزينة الوقورة، تتسرب منها نسمات شفافة، الجبال تتنهد بعمق.

روحِك إلِك، وكأن الروح في التنهيدة تغادر مكانها ومسقط رأسها، وتقوم بزيارة الى الخلان، والحُضّار يتعاطفون:

  • روحَك إلَك. روحِك إلِك.

غلالات من الندى الرّقّاد تحبو من الخلّات والوديان، تتعربش وتتعمشق على الجبال الرجّالية المهيبة، في زيارة قصيرة، شوفة خاطِر، ومرْقة طريق، الجبال بدعوة رجاء شهمة ترجوها البقاء لكن هذه تعتذر:

  • خيرها في غيرها، وتكمل الطريق.

البلبل النشيط يطلق اول اغنية في هذا الفجر الناعم العطِر، يعلن عن فجر جديد، فيه البهجة والحُبور والأمل الرحب، ويدعو الخلان الى النهوض.

الفكر يسرح ويمرح، بلا سدود ولا قيود، فها هو يحط على أنشودة العندليب:

في الحُرش يا أصحابي

  طير يغرّدُ

قد لذّ لفؤادي

   ما كان ينشد

وهو يرف دومًا

   يدعو ولا مجيب

لبّى الربيع يوما

   نداءه العجيب

صديقنا الربيع

  يفرّح القلوب

ولونه البديع

  يجلو صدا الكروب

أفقت في الفجر الربيعي، قبل الطير، هي عادة، أنام على الشرفة، وأرشف فناجين القهوة، ودخان التبغ الجبلي يتلوى قبل ان يذوب، هي عادة ايضا.

الطير على شجرة التوت، يتقافز بمرح، هو اول من يتذوق الثمر، ينتقي الأحلى والألذ، كأمهر متسوّقة، وفي تغريده الناعم العطوف يعلن: السنة مباركة والخير جْديد. يتروّق. والترويقة في موسمها، أكواز من التين، حبّات من البطم والعليق، من القاتل والسّويّد، وعنب الدالية المتعربشة والمتمسكة بشجرات السنديان، والمفلوشة على أجباب الشيح الرضي بهذا الدّور.

النسمات المدللة تُرعش طُلوق شجرة الزينة، شجرة باسقة نحيفة ممشوقة، قوتها في طولها.

كانت بذرة بنية صغيرة كبذرة الخروب، زرعتها واحدة من صديقات البيت، تغبط علينا، ونغبُط عليهم.

والفكر الراعش المتموّج يحط على هذه الاسماء العطرة الربيعية الخلابة: قطف الزهور، عطرشان، زين الدار، قطر الندى، ورد الشام، زهر البان، شهربان، زين الكمال، جلّنار، وحكايا شهرزاد، وريم الفَلا، وفريط رمّان، وقوت القلوب. واغنيات:

خيّا يا ريم الفلا وقفْ تشوفْ

  شو هالذنب اللي عمِلْتو بعد المعروف

وأسماء مرج الغزلان، مْراح العجّال.

الفجر يوحي بكل ما هو عذب فتان، ويُنعش القلب الولهان، حيّدت فكري عن كل المحطات والذكريات البائسة المرّة الحقيرة والمهينة وهي ليست قليلة، مغامرات خائبة فاشلة مع شتائم ومسبّات، مواقف محرجة مكدّرة، فيها تهوّر وأنانية منتنة ملوّثة، بُقع ولطخات عكرة مريضة في مشوار الحياة، أقصيتها بضربة قاضية، يجب التفرغ والانشغال بما هو أحلى، وبمن هو أجمل وأعذب، فلماذا العودة الى التوتر وتعكير الدم، ومواقف الرخص والنذالة!! عليّ ان أواجه امراض العصر الحديثة والمستحدثة، امراض القلب والأعصاب، ألا يكفي ما هو موجود، المواجهة باندفاع وهجوم وحتى بالغطرسة والزحف والممانعة، وإن جاء الموت بنوبة قلب، يجب استقباله بشجاعة وقسوة وشهامة، هاكم النّسر والعقاب، عندما يحس بقرب الأجل، يعلو الى العُلا، الى الجوّ، ويرمي نفسه بمنتهى المهابة والشموخ ليتحطم ويغادر مسرح الحياة بكرامة.

وفي الزرازيرِ جُبن وهي طائرة

  وفي البُزاة شموخ وهي تحتضر

شعراؤنا كالبُزاة والنسور، من أيام عنترة بن شداد، لكل أمة أبطالها تتغنى بهم، حتى القساة والمجرمون. ما قولنا في أمة تمجّد جنكيزخان، وبونابرت، وهولاكو!! وهذا الخليفة العباسي النذل الحقير، تارة المستعين بالله، والمتنصِر بالله يقول: إن هولاكو لا يستكثر عليّ بغداد، وهي وحدها تكفيني!! كافأه بالقتل الرخيص، وبدم بارد، بما يشبهه.

لو كنت في لجنة تحكيم لرشحتُ عنترة بن شداد، العبد الذي قال: العبد لا يُحسن الكرّ، يحسن الحلبَ والصَّر:

  • كرّ وأنت حُر

حرّر نفسه بالسيف والإقدام والاقتحام.

نبيلات الرومان العذبات الطريات المضمخات المعطرات، كن يتعريّن تماما، والاستحمام أمام عبيدهن، لأنهم في نظرهن لا يعتبرون من البشر، فكيف لا افتقد يومها ابن شداد ابن زبيبة وعاشق عبلة او عَبلاء، ولماذا لا نفاخر فيه العالم، الملأ وعلى المَلأ.

ومثله:

فإما حياة تسر الصديق

  وإما ممات يغيظ العِدى

شعراؤنا بزاة ونسور وصقور.

حومة النساء يثرثرن كعادتهن حول الميت: وجهه مرتاح، يعرفن من مات جائعا او حزينا او حقيرا من سحنة وجهه الميت. ويعرفن وجه الكريم الأبي الشجاع، لهن حاسة صائبة، أحيانا وليس دائما.

وتعود الذكرى الناعمة والجامحة في نفس الوقت الى ذلك اليوم البعيد:

حلقة الدبكة عامرة، غبار الارض ودخان النار ونكهة الانفاس الحرّى الشذية، تتخالط وتتواصل كلها في غلالة مشبوبة.

وهي تغني:

  • يا شوّامي يا رايحين الشام..

في صوتها غُنج وبحّة خفيفة كأنغام شبابة القصب الستاويّة على عيون الماء وزَرْدات الوعر المصغي بوقار.

على وجهها الأبيض، تتمشى خفيف، جدا خفيف، العنق حيّ عبِل عرِق بلا أي نمشة. ومن المفروض والمتبع والمألوف ان يكون البدَن كذلك، وهذا ما تبين بعد ردح من الأعوام.

في ثغرها طول مرغوب وملائم، ملائم للبسمات والضحكات المغردة وأشياء وحالات وأحوال اخرى، غير مزموم ولا مكوّر،

نظري يرشق وجهها وقدّها، هذا ما ارتآه مناسبا، خصلات شعرها الخروبي تتقافز وتسرح وتمرح على جبهتها الوافرة وخديها الأسيليْن، بحبور ناعم مغرّد، صبية جامحة مثل المهرة. وأنا ألاحق حركاتها وهي تربُج في حلقة الدبكة من حيلها وعزمها.

قوية هذه الصبية، لا أحد مثلها يُتقن أغنية يا شوّامي يا رايحين الشام. صوتها حنون، كأني أرى عينيها ترفّ، قد تكون تغمز، او هي عادة!!

وكأن هذا الفجر الربيعي، ارتاح، ظلّ على حاله، وحتى ستائر وحرامات الندى خفّفت من حركتها الخفيفة أصلا، كلها تصغي وترتاح قبل ان تودع وتغادر، فهل الذكريات متسرّعة مستعجلة كرفة العين وغمزة العين ولمح البصر.

وشوَشة الطير المرحة العطوفة الحنونة، والنجمات القليلة المرتعشة والنسمات الباغمة العفيفة كلها كمن تردد هذه الاغنية التي تتقنها.. تغني بهذا الثغر الواعد، والعيون الشُّهل وخصلات الشعر المختلجة والبدن الممشوق. تخيلت بسمة ودودة متحفظة وأنا اتطلع اليها بأمل باسم.

كنت قد أسمعتها كلمات تودد وإطراء، وحركشة مؤدبة خلوقة، لم تغضب، ولم ترد، بل تشرد كريم الفلا، يجب التمهّل، والإصرار، وتحيّن الفرص والمناسبات والصّدف، ورحت أخطط لهذه الصُّدف. وأزيح وأهدم الكثير من السدود والحواجز وغدرات الأيام والزمان، فهذه الحالة كالثمر، بحاجة الى أيام، الى شمس وهواء وعناية، قبل ان تروح تنضج على مهلها، الطبيعة ترفض الاجهاض والمغامرات المتهوّرة المتسرعة، هي حكيمة الى اقصى حد، حتى وإن تعرضت لهذه الآفات، تعود الى شأنها وطبيعتها.

المهم التقدم والتطور، ولو بمنتهى البطء، المهم التوجه والاتجاه، والفحص الدائم، هل أنا وهل المسألة الشائقة في الاتجاه الصحيح!! لا خير في النوايا والأمل إن لم نعمل على تحقيقها، وفترة النشاط هذه من أثمن وأروع الفترات، أنت لست على الحياد، وتتكل وتتوكأ على مرّ الأيام.

أطلقتُ قهقهة ضاجة في غير محلها وأنا اتذكر ما رواه الأصمعي لهرون الرشيد، عن أعرابي كسول عاشق، يتمنّى، دون ان يحرّك ساكنا ولا يبذل أي جهد ويقول:

لعلّ الله أن يأتي بسَلمى

  فيبطحُها ويُلقيني عليها

والرشيد انبطح من الضحك وتنشّط.

(يتبع الحلقة الثانية والأخيرة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب