news-details

أبو سمير عوينات... عندما ترتبط الصورة بالمكان 30 عاما | ميساء عمر

بابتسامة ممزوجة بتجاعيد وجه تجاوز الستين من العمر، يبدأ الحاج بلال عوينات "أبو سمير" عمله كل صباح، كبائع متجول على عربته ذات العجلتين.

معتمدا على ذراعيه يدفع عوينات عربته متجولا بين أحياء وأزقة مدينة قلقيلية، يصدح بصوته الرنّان، لجذب المشترين لما يبيعه من حبات الفلافل الطازجة، والزعتر البلدي، وحلقات الكعك القدسي.

لم يفارق صوته أحياء المدينة منذ ثلاثين عاما، فبات حضوره ثابتا كما البنايات وجدران الأزقة، كطابع تراثي تاريخي، وبروح الشاب العشريني وخفة ظله يتعامل عوينات مع زبائنه، ما جلب له الشهرة والاعجاب، ولحضوره جو خاص، ما يدفعهم للتهافت عليه، ليس فقط للشراء منه بل لإلقاء التحية وتبادل الحديث معه.

في حديثه لـ "وفا"، لم يمنعه جسده النحيل ومعاناته من أمراض الكبد والسكري والضغط، من العمل بشكل يومي والاستمتاع بالمهنة، التي استطاع خلالها أن يكوّن عائلة من سبعة أبناء، فهي وسيلة يخفف بها عن نفسه مصاعب الحياة بالاختلاط مع الناس، إلى جانب محاولته الحفاظ على ما تبقى من صحة من خلال الحركة.

وحسب ""ابو سمير"، فان ظروف الحياة اضطرته لترك الدراسة بعد حصوله على شهادته الابتدائية، وقد حرص على تعليم ابنائه حتى حصلوا على شهادات جامعية، وبينما يسكن اليوم هو وزوجته ونجله الأصغر، يطالبه أبناؤه بجلوسه بالمنزل، وترك العمل بعد أن أدى رسالته، لكنه يصر على أن يعمل بالمهنة التي يعشقها، بالرغم من حالته الصحية التي تنتكس من وقت لآخر.

وأوضح قصة كفاحه التي بدأت بعدما اضطرته الظروف المتردية الناجمة عن الحصار الإسرائيلي وتعطل سبل الحياة، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى "1987"، وفقدان والده العمل في ورشة لنجارة الخشب بقرية النبي إلياس شرق قلقيلية اثر الاغلاقات والاقتحامات اليومية للمدينة، وفرض منع التجوال، وكيف أصبحت العائلة دون معيل.

وتابع: "كان لديّ صديق يمتلك عربة يبيع عليها الكعك وما تيسر له، وكان بين فترة وأخرى يطلب مني مساعدته أو البيع بدلا منه، وبقيت كذلك الى أن قرر "صديقي" ترك العمل عليها، وقدم لي "العربة" كهدية، أساعد عائلتي لنعتاش منها، ولم افارقها حتى اليوم".

وأضاف "عَملت على العربة إلى جانب عملي في المقاهي والمناسبات والأفراح، ومع تعاقب الظروف بقيت العربة ثابتة كمصدر رزق أساسي، أخرج من الرابعة فجرا مع خروج العمال باتجاه أراضي 48، وأكون حينها قد اشتريت الكعك المقدسي، وقد أعدت زوجتي عجينة الفلافل بيديها، ووضعت كميات من الزعتر البلدي في قطع ورقية صغيرة يسهل عليّ بيعها".

ويتجول "ابو سمير" في الأحياء والشوارع مناديا بأعلى صوته: " كعك كعك كعك"، "فلافل طازجة وزعتر بلدي"، "ميل على الكعك المقدسي".

ولعل الكعك المقدسي بالسمسم والمرتبط بمدينة القدس بشكل أساسي، والمعروف بمذاقه المختلف، وطعمه الذي لا ينسى ونكهته الأسطورية، أحد أكثر الأسباب التي كانت تشجع المشترين على الشراء من "أبو سمير"، بحسب قوله.

فصناعة الكعك ظهرت في مدينة القدس قبل أكثر من 150 عاما، وباتت اليوم تشكل جزءا من تراث وعراقة المدينة المقدسة، فكل زائر للقدس من المدن المختلفة يكاد لا يعود الى منزله دون الكعك المقدسي.

وعليه حرص "أبو سمير" على شراء الكعك من مخبز بالمدينة، يقوم بتجهيزه بنفس المقادير التي يتم صناعتهاعلى أيدي التجار بالمدينة المقدسة، محاولا أن يكون المذاق شبيها لما يصنعه تجار القدس، وهو ما حقق له البيع الوفير.

إن حكاياته وروحه المرحة، وصوت فيروز الذي ينبعث من جهاز مذياعه الصغير، الذي يعود بك الى الزمن القديم، كان سببا آخر من الأسباب التي دفعت بالكثير الى تبادل الحديث معه والشراء منه، كما يقول السائق العمومي حامد نزال أحد زبائنه، بعدما اشترى منه كعكتين و"عشر "حبات من الفلافل المنعشة، له ولزملائه السائقين.

وترى صابرين عودة "موظفة"، أن الطعم اللذيذ لحلقات الكعك المقدسي، تدفع بها الى مواظبة الشراء منه بين فترة واخرى واستفقاده، وتشجع زميلاتها على الشراء منه تقديرا لعمله الدؤوب ودعما لرزقه، ولشخصيته المرحة بالرغم من مصاعب الحياة.

إن تقلبات الحياة تتطلب منا الكفاح ومثابرة العمل لتغطية احتياجاتنا اليومية، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي أوجدتها جائحة "كورونا"، والتي تسببت بتراجع الدخل اليومي، فبدلا من السير مسافة "4-5 " أصبح يستغرق "7 – 8" كيلومترات يوميا، وبالتالي بذل مزيد من الوقت والجهد، لإنفاق ما تم إعداده في صبيحة كل يوم، "يقول ابو سمير 63 عاما".

وبين أن حب العمل لا يرتبط بسن معين، ومهنته مهنة انسانية بحتة تتطلب صبرا وقدرة على التعامل مع الناس بمعنوية عالية، لا سيما مع تطور اساليب الحياة.

وتعتبر العربات المتجولة بفلسطين، واحدة من المهن التي يعتاش من خلالها الكثير من المواطنين لإعالة أسرهم، وخاصة مَن لم يحصل على وظيفة أو مصدر دخل ثابت، أو لا يقوى على العمل في قطاعات أخرى.

أخبار ذات صلة