news-details

أسلمة الفنّ وأسرلة الديمقراطية

‎يبدو أنّه كما يقال "قلّة الشُّغل بتعلّم التّطريز"، ولكن الإفلاس والفراغ الفكري في هذه الحالة العينيّة بالذّات يدعو إلى غزل التطريز التكفيري البعيد كلّ البعد عن اللّا محدودية الروحانية التي نتوق إليها، وعن الابداعية الثاقبة الخالصة الّتي قد يقدّمها الفنّ على اختلاف أشكاله.

‎ بجّتنا -كما تجري العادة-مجموعات متطرفة دينيًا إمّا لحجج واهية مستديمة أو لخللٍ عضويّ موروث في ذوقها العامّ وأرادت أن تضبط أخلاقنا فكفّرت الفنّ لادعاءات خارجة عن حدود العقل البشريّ.

‎تكفّلت بلدية عرابة -مُقدّرة على جهودها-بأن تقوم برعاية برنامج فنّي مساء الجمعة الماضي في السابع عشر من كانون الثاني الحالي، ودعت إليه الشّاعر الفلسطينيّ مروان مخول لإلقاء قصائد من ديوانه الشّعري العميق الجدير في أن يُصغى إليه، يُحس به ويُلمس بحذرٍ من ولوج كلماته إلى ذواتنا أكثر، "كاتاباز" هو عنوان القلب متقلّب الأهواء والأحاسيس والجوارح، هو وصف خاصّ لألمٍ جمعيّ عامّ، يصف فيه مروان شعورًا من قعر لبّه إلى جوى أفئدتنا، من ميكرو تفرّده إلى ماكرو لقفنا.

‎ وقد دُعيت للأمسية فرقة محليّة كذلك لتقديم استعراض فنّي آخر، ادّعى لأجلها "أحفاد الصدّيق" وهي مجموعة قامت بتوزيع منشورات في نفس اليوم المذكور تصف فيها عضوات الفرقة بأنّهن يرتدين لباسًا مخالفًا للموروثات، القيم المجتمعية، العادات والحياء المخدوش على حد وصفهم بالفحش والفضيحة وإثارة الغرائز!

‎ليست هذه الحالة بحدّ ذاتها ما يعنيني وليس لي في عرابة، هذا البلد الطّيب، إلّا خيرة الرّفاق والأصدقاء. ولكن هذا المشهد عمومًا معتّق بالجُبن والذّعر والخوف من الانكشاف على ما لم يُرسم لتحديد ذوق الأمير أو الإمام، على أمر يقف خارج زاوية الإطار الاجتماعي، مربع الأخلاق العظيم، أو القالب الديني الذي تعرّض لتسييس ظاهر لشدة ابتذاله المرفوض، والّذي يتحفوننا به عند كلّ مناسبة على امتداد وطننا السّاذج.

‎ومع ذلك ودون مبرّرات قد تلغي مسؤولية هذه الجماعات، إلّا أنّها حالة ماديّة تجارية قابعة تحت مظلّة المؤسسة الصهيونية الحاكمة التي لا ترمينا  بطبيعة الحال بالأزهار والورود، عدا عن عزاء المشروع الخلافيّ المنتظر، وهذا بحدّ ذاته زوبعة في فنجان الرّجعية. هي ثقافة سائدة راقبناها بحيرةٍ في أم الفحم، مجد الكروم، طمرة وغيرها من قرانا و"مدننا" اليتيمة، الّتي تسعى فيها عناصر متعصّبة وعمياء بيننا للتمدّن والتحضّر بالانحصار والانطواء بل والتكفير والإبطال والتعتيم والجزّ والقمع. كنّا نحاول حينها أن يباغتنا تعريف لغويّ منطقيّ يحوّل أذهاننا البهلوانية إلى "الذّوق العامّ"! لنرى بأعيننا ما رصّه العلماء لغةً واصطلاحًا ونهتدي إليه.

على الضّفة الأخرى، هنالك مشهد اسرائيلي مماثل متكرّر، فيه نفي، نزع شرعية، شطب، احتلال وعدوان مستمرّ على الجماهير العربيّة تحت نزل الديمقراطية الوقحة. فتطلّ علينا المؤسسة بزيفها لتقيّد، وتجرّم العمل السّياسي للجماهير العربيّة لاعتبارات عدائية مفروغ منها، ويقرّر يمينها الفاشي المتطرّف تأجيج ماكناته الإعلامية على حين غرّة لمنع النائبة هبة يزبك -عضو عن التّجمع الوطني الديمقراطي- من خوض الانتخابات القادمة.

‎في الحقيقة هي حالة ليست نادرة، ولا حدود للأمثلة الّتي يمكن للذاكرة استرجاعها نظرًا للمظلومية الّتي ترشنا فيها هذه المؤسسة الحاكمة. هي تريدنا جزءًا من المنظومة، نمارسُ فيها حقّنا في التّرشح على سبيل المثال لا الحصر، ولكنّها لا تتوانى عن إطلالة منحدرة من تفوّق ديمقراطي صُوريّ مهترئ وزجّ سيناريوهات كريهة، ترهة ومقيتة على الدّوام. تريد أن تخضعنا لنقول ما تبتغيه هي بعينها، تريدنا عاجزين وخانعين، لا ننبس ببنت شفة إلّا تحت أذوناتها المُذلّة.

‎ولا دهشة في أن تكون الهجمات المتتالية على النّساء العربيّات، اللّواتي يملكن فكرًا حرًّا مقاومًا وحقيقيًّا ترفضه المؤسسة الحاكمة ومقودها اليمينيّ الأبله أينما وقفنَ وصرخنَ بكلامٍ يزيل البكم ويكشّر عن القوّة والحكمة والنباهة. كيف لا؟ وهنّ نساء يحاربن على جبهة الذّكورية المجتمعيّة المتفاقمة، ويحاولن بإخلاص وصلابة أن يعاركن منظومة القهر القومي بكلّ الوسائل والطرق الممكنة فكريًّا وعمليًّا.

‎ أعتقد أخيرًا أنّ لا بون بين المشهدين، كلاهما تكفيريان، ظلاميّان، تغزوهما شوائب لا تعدّ ولا تحصى. بين أسلمة الفن وأسرلة الديمقراطية نحن باقون، مع هبة يزبك أو مع كل فكرة عصرية تناسب ذوقنا نحن، ذوقنا الّذي تحركه الفكرة لا السّيف البينيّ القاطع.

‎ ولكن يبقى العتاب في كلّ مناسبة أكبر –نظرًا للأوهام الّتي نخلقها لأنفسنا-على من يشاركوننا عناء الهزيمة الّتي نأمل ألا تُستحدث أمام هذه المؤسسة. كلّ العذل واللّوم على من كنّا نفترض أنّهم شركاؤنا في غرس الوعي، وطنيون مثلنا يلهثون لصدّ الامبريالية والرّجعية، أو على الأقلّ ليكونوا ممّن يتصدون مع الشّرفاء لنبذ الفساد، الجريمة والعنف والتحرّش والاغتصاب وغيرها من مآثر الأسى على مجتمعنا المأفون والمدفون.

أخبار ذات صلة