news-details

عبرة الكورونا: نعم، الاشتراكية هي الحلّ، أو مُلهمته على الأقل

العنوان أعلاه ثقيل الوزن، هذا واضح، ويحتاج منطقيًا أولاً عبور تجربة الكورونا الأولية، ثم الابتعاد عنها بمسافة زمنية ما، وبعدها فحص ما إذا كان صائبًا أو صاحب احتمالات. لذلك، ليكن هذا المقال مادة للتفكير تظلّ تحتاج لاحقًا إثبات ما تقوله.

قبل 9 أشهر نشرت مجلة "نيويوركر" الأميركية مقالا بعنوان: "لماذا عادت الاشتراكية؟". وهو كلام غير اعتيادي في الخطاب الصحفي الأميركي السائد: عودة الاشتراكية مرة واحدة؟! كاتب المقال، الصحفي المتمرّس جون كاسيدي يستذكر لقاء له في خريف 1999 مع طوني بلير الذي كان آنذاك رئيسا لحكومة بريطانيا من قبل حزب العمال، وسؤاله إياه عما إذا كان يؤمن بالاشتراكية. بلير، الذي سيتبيّن لاحقًا أنه من غلاة وأجْشع منتفعي الرأسمالية المتوحشة، أجاب أن الاشتراكية بمفهوم الضوابط الحكومية واسعة النطاق، ومعدلات الضريبة العليا على الأغنياء جدا، قد ماتت.

دفنها بلير!

كانت تلك فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بتسع سنوات تقريبا، حيث تبنت حتى أحزاب يسار الوسط في الدول الغربية المزيد من السياسات "الصديقة للسوق الحرة"، كما وصفها الكاتب. اليوم، بعد عشرين عامًا، تابع كاسيدي، يقود الاشتراكي البريطاني الملتزم جيرمي كوربين حزب العمال، وبيرني ساندرز مرشح للرئاسة الأميركية تحت راية "الاشتراكية الديمقراطية"، وفي مجلس النواب الألماني يمثل حزب الخضر وحزب اليسار الاشتراكي تحديًا حقيقيا. والسبب في تجدد سطوع نجم التوجهات اليسارية، هو فشل كل السياسات المؤيدة للسوق الحرة في البلدان الغنية مثل بريطانيا والولايات المتحدة، بتقديم النتائج الموعودة على أساس ثابت.

النظرية القائلة: إن فتح الأسواق وخفض الضرائب وتجريد الاقتصاد من القيود المفروضة على الأعمال التجارية، من شأنه تعزيز معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي توفير مستويات معيشية للجميع، وإن النمو الأسرع للاقتصاد من شأنه توسيع القاعدة الضريبية ثم السماح للحكومة بإنفاق المزيد على التعليم والرعاية الصحية – هي نظرية صمدت لبعض الوقت فقط، لكن ذلك لم يدم طويلاً وبلغ ذروته (حضيضه بالأحرى) في الأزمة المالية والركود الكبير أواخر سنوات الألفين. فبعد عام 2008 انخفض معدل الأجور بشكل حاد، وأصبحت مشاكل الفقر والبطالة والتشرد أكثر تفاقمًا حيث تم تكسير بقايا شبكة الضمان الاجتماعي في ظل سياسات التقشف المحافظ.

هذه كلها أمور حاسمة التأثير، يشير الكاتب في "نيويوركر"، لكن اللحظة الرئيسية "لإحياء الاشتراكية الأميركية" كانت تدخل الدولة لإنقاذ وول ستريت عام2008  و2009، "عندما أجبرت دافعي الضرائب على إنقاذ المحتالين الذين صنعوا الأزمة المالية". من هنا يخلص المقال الى أن شرعية اقتصاد السوق على المحكّ، فمن آدم سميث إلى ميلتون فريدمان حاجج المدافعون عن النظام الرأسمالي أنه في نهاية المطاف نظامٌ أخلاقي لأن المنافسة تعود بالضرورة بالفائدة على الصالح العام، ولكن أين الأخلاق في نظام يتم تقاسم المكاسب الاقتصادية فيه بشكل ضيق للغاية، وتمارس الشركات العملاقة فيه السيادة على مساحات كبيرة من الاقتصاد؟، يتساءل الكاتب.

أما المؤرخ السياسي البارز اريك هوبسباوم فقد نشر مقالا في "الغارديان" البريطانية في نيسان 2009، حاجج فيه بأن البشرية عاشت محاولتين كبريين: الاقتصادات التي تخطط لها الدولة مركزياً من النوع السوفييتي، والاقتصاد الرأسمالي للسوق الحرة غير المقيد وغير المنضبط بالمرة. الأول انهار في الثمانينيات، والثاني ينهار أمام أعيننا في أكبر أزمة للرأسمالية العالمية منذ الثلاثينيات. وفي حين يدعي أنه "لا أحد يفكر بجدية في العودة إلى الأنظمة الاشتراكية من النوع السوفييتي بسبب التباطؤ المتزايد وعدم كفاءة اقتصاداتها"، فهو يشدد على أن "هذا لا ينبغي أن يقودنا إلى التقليل من تجربتهم الإجتماعية المثيرة للإعجاب في مضمار الإنجازات التعليمية".

ولاحظ هوبسباوم أنه منذ السبعينيات أضعفت الطفرة المتسارعة للعولمة الرأسمالية السياسات الاجتماعية وصولا الى ما يسميه: "لاهوتية وأصولية السوق الحرة العالمية"، ويورد المثال البريطاني حيث باعت الدولة صناعاتها لكل من يدفع أكثر وتوقفت عن صنع سلع للتصدير ووضعت أموالها لتصبح المركز العالمي للخدمات المالية وبالتالي جنة غسيل الأموال بالمليارات.

فشل النموذج الرأسمالي هذا الذي يؤكده خبراء كثُر، يلاقي ترجمة له بالبث المباشر اليوم، مع تفشي وباء فيروس كورونا. فالأنظمة التي رفضت بعنف أي دور للدولة في تنظيم الاقتصاد، ولو في النواحي الأساسية الضرورية للحياة، تعود الى ما اضطرت لفعله (أو اختارت) عام 2008، الى ضخ الأموال في أضخم تدخّل وأكبر نفي عمليّ لمفهوم "السوق الحرة"؛ هذه التي قيل إنها كفيلة لو تُركت بمعزل عن تدخل الدولة – خلاصة العقد الاجتماعي للمواطنين – أن تحل كل مشكلة وتتغلب على كل عقبة. فها هو "بنك الاحتياطي الفيدرالي" (المركزي الأميركي) يعلن عن ضخ 1,5 تريليون دولار في الأسواق، لتعزيز نسب السيولة في سوق المال، وسط الذعر الذي أصاب المستثمرين بسبب وباء "كورونا".

لاحظوا: لم تُضخ الترليونات لتوفير إمكانية إجراء فحص طبي مجاني لملايين الأميركيين المحرومين من تأمين صحي، بل "إلى معالجة الاختلالات غير العادية التي حدثت في أسواق المال خلال الأيام القليلة الماضية بسبب فيروس كورونا".

الصحافة الدائرة في فلك البورصات اعتبرت أن هذه هي المرة الأولى التي يتدخل فيها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في سوق المال، بشكل مباشر، منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. ورأت في الأمر مؤشراً على دخول الاقتصاد الأميركي في أزمة مالية لا يعلم أحد حجمها ومداها. مقابل الترليون ونصف ترليون، أقر الكونغرس الأميركي تخصيص 8,3 مليار دولار لمكافحة فيروس كورونا، في وقت يدفع فيه دونالد ترامب لخفض الضرائب، أي رفع الدولة أكثر ليدها عن القطاعات الحياتية الأساسية، منها الصحة.

بين الأسئلة الساذجة التي تتبادر للذهن: إذا كانت السوق الرأسمالية ("الحرة"=المتحررة عمليا من المسؤولية عن البشر والملتزمة بقيمة الربح فقط) تصطدم في كل أزمة بجدار صخري لا ينقذها منه سوى تدخل الدولة، أي القيام بالنقيض التام لفكرة الرأسمالية الأولى، أي القيام بأكثر الأفعال إدانة في العرف الرأسمالي: الفعل الاشتراكي، أفلا يعني هذا شهادة وفاة لنجاحها المزعوم؟ طبعا من الغباء توقّع هكذا اعتراف من المستفيدين من النظام الرأسمالي، ولكن ماذا بشأن جموع ضحاياه الذين يواصلون الاحتراب على الغيبيات المختلفة، بينهم تسحقهم يوميًا أكثر الآلات الدنيوية كفرًا: الرأسمالية حين تتوحش؟!

الصورة: مواطنان أمريكيان في ظل ناطحات السحاب، قبل أيام – صورة من شينخوا

أخبار ذات صلة