news-details

"طلعت خسران الدنيا والآخرة!"

الناس في أعراس آخر الموسم يأكلون بشراهة أكثر من المعتاد، من باب توديع الموسم، فيملأون الكروش استعدادًا لفصلٍ لا أعراس فيه ولا هبر ولا كنافة. في كلّ موسم أعراس يلتهم الناس عشرات الأطنان من اللحم في كلّ بلد. ما تراه في هذه الأعراس يحتاج إلى وقفة عتاب صريح. يأكلون لا تمنعهم دهنيّات ولا كوليسترول ولا ضغط ولا سكري لعين ولا كروش دالقة. لا يعملون حسابًا لا لدنيا ولا لآخرة. غريب عجيب!!

قعدنا على طاولة مدوّرة أنا وأبو محمد، وهو حاجّ متديّن وملتزم في السبعين من عمره. دمه خفيف ويحبّ المزاح. وما أن قعد حتى أمسك بهبرة من لحم الخروف، قطعة كبيرة انتقاها بعناية، ووضعها في صحني. مال عليّ وهمس في أذني: "تحطّش رزّ ولا فريكة.. كُلْ لحمة حاف!" ارتبكت للحظات فأنا أحبّ الرزّ والفريكة مع اللحمة. جاريته على مضض. بعدها أمسك بثلاث هبرات مثلها ووضعها في صحنه بدون أيّ كماليّات أو مصاحبات لا من رزّ ولا فريكة ولا فقّعية. أكلنا بنهم. "طبيخ العرس طيّب ومن نفس طيّبة"، يهمهم الحاجّ دون أن يرفع رأسه من صحنه العامر. سحب ثلاث هبرات وأنا ما زلت أعابث هبرتي على مهل (بلا قافية). ثمّ جاءوا بجاط لحم سخن جديد يترجرج فيه الهبر ويتصاعد بخاره. حطّ الحاجّ عينه عليه. ولمّا لم يرَ مني حركة مال عليّ وهمس في أذني: "بدكاش تسدّني الدينة؟!" لم أفهم في البدء وقلت مستغربًا: "أيّ دينة يا حاجّ؟!" فقال: "يا غشيم، قبل شوي ديّنتك دينة، ردّها وزيد عليها. إكرم!" بعد تلكّؤ وتأتأة للحظات فهمت قصده فانتقيت هبرتين تفتحان النفس المسدودة والمفتوحة على مصراعيها ووضعتهما في صحنه. أكلنا وشبعنا. هو شبع أكثر مني. وكنت كلما هممت بالقيام أمسكني الحاجّ من يدي وشدّني بقوّة: "أقعد!" قام كلّ الضيوف الذين كانوا معنا على الطاولة وأنا والحاجّ ظللنا مرابطين. أنا كارهٌ وهو راغب. خمس هبرات كاملة يزيد وزنها على كيلو وربع، بدون مبالغة، سحبها الحاجّ وهو يحمد الله ويشكره على كلّ نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى ويمسح شاربيه ولحيته.

جرّني من يدي لنتنقّل ونتفكّه ونتحلّى. أنا أكلت حبّة تين واحدة سباعية وكوزًا واحدًا من الصبر. وهو أكل خمس حبّات وخمسة أكواز: "الصبرات صغار... الموسم هاي السنة ما نجحش". قال وهو يبرّر أكله لخمسة أكواز بكاملها. وكأنها وقفت عند أكواز الصبر وحدها!! شدّني مرّة أخرى من يدي وسحبني إلى طاولة الكنافة النابلسية فأكل صحنين غارقين بالقطر والسمنة البلدية... تعب الحاجّ وصار يلقط أنفاسه بصعوبة. قلت: "يا حاجّ، ما خلّيت للميّ ولا للهوا لا ثلث ولا حتى عُشُر!" فقال وكأنه يريد أن يعلّمني معلومة غابت عنّي: "المتديّنين يا أستاذ بحبّوا الهبر كثير!" فسألته: "المطبوخ واللا الحيّ يا حاجّ؟!" فقال وهو يحاول أن يضحك: "الثنين مع بعض يا أستاذ!" فقلت له محذّرًا ومذكّرًا: "لمّا بتكثّر من المطبوخ بتخسر الحيّ يا حاجّ!"لم يفهم الحاجّ قصدي لأنّ دمه كلّه نزل إلى كرشه ولم تبقَ فوق قطرة واحدة.

قبل أيام رأيته وكان جسمه كلّه يتجمّع في منطقة الكرش. كلّ الرجل كرش. قفاه ضامرة ماسحة، وكأنه بدون قفا، وساقاه رفيعتان وكرشه دالق.. أنهكه السكّري اللعين. رأيته يسير وهو يترنّح، تدخل رجله اليمنى على خطّ اليسرى، ويسراه على يمناه فيبدو وكأنه سكران. فقلت له مازحًا: "شوف الهبر شو عمل فيك يا حاجّ... بعدك بتحبّه؟!" فقال وقد أدرك قصدي: "والله صحيح، المطبوخ مقدور عليه والحيّ موعود فيه بالجنّة!" فقلت له بالفصحى التي يحبّها ويحادثني بها أحيانًا حين تكون غزالته سارحة: "كيف تضمن الجنّة وقد كفرت بنعمة ربّك ثلاث مرّاتيا أخا العرب: أكلتَ من الهبر المطبوخ ما فاض عن حاجتك، فانحرمتَ من نعمة الهبر الحيّ، وحرمتَ ابنة عمّك منها؟" فقال وهو يكاد يقلب على قفاه الممسوحة من الضحك: "طلعت خسران الدنيا والآخرة!"

إبراهيم طه

أخبار ذات صلة