news-details

أفٍّ لهذه "الأُفْ"!

"وين بدّك تُشْمُر بكرا؟" هكذا سأل الأول الثاني، وهما ممّن يعملون في الحراسة الأمنية في الجامعة. "بكرا مْخُوفِش.. ما بُشْمُر". ردّ عليه الثاني وهو في غاية الانبساط. كان هذا يوم الثلاثاء قبل أسبوعين بالضبط... يوم الأربعاء الماضي انتهت المحاضرة الأولى عند الظهر تمامًا وخرجت لأحتسي فنجانًا من القهوة في أحد مقاهي الجامعة. وفي الطريق إلى هناك كانت طالبتان عربيّتان تتهاديان قدّامي بتراخٍ جميل تمرّان مرّ السحابة لا ريثٌ ولا عَجَلُ. كانت الأولى تعدّد أيام العطل القريبة والمرتقبة وتحسبها بدقّة. "عنا عالقريب تْلات تِيّام أُفْ: الحانوكا والكريستماس والبسيخو". وهي الأخرى كانت مبسوطة مثل ذاك الحارس وربما أكثر قليلا. ولماذا لا تنبسط والحديث عن ثلاثة أيام "أفْ"بكاملها!!غذذتُ السير وأدركتهما فسألت التي كانت تحكي من باب التحشّر والتحرّش (غير الجنسي طبعًا): "معلش، شو قصدك بالبسيخو؟!" ضحكت الطالبتان مثلما لم تضحكا من قبل! وقالت إحداهما وقد زمّت شفتيها إلى أعلى: "ما بتعرفش شو يعني بسيخو يا عمّو؟!" قلت بكلّ الصدق والسذاجة والعفوية والترقّب: "لا والله!" قالت: "بسيخو هاي اختصار امتحان بسيخومتري... زي ما تقول واتس وفيس!" كانت ابتسامتها مطعّمة بكثير من الاندهاش والشفقة على كهلٍ مثلي لمّا يسمع بكلمة "بسيخو".. كان الحقّ معها، "ففي أيّ قرن أعيش أنا.. أين أعيش؟!"

في المحاضرة الأخيرة من ذاك النهار التقيت بأحد طلابي في الماجستير، الأستاذ محمد الأكرم، وهو أحد أساتذة اللغة العربية في مدرسة كابول الثانوية. قال إنه سمع شابّين اثنين من بلدنا وهما يتحدّثان عن مطاردة الشرطة لأحد المشبوهين في البلد. قال أحدهما للآخر: "مَرْدَف البوليس وراه لآخر البلد". مرّت لحظات لم أستوعب فيها معنى كلمة "مَرْدَف" لولا السياق الذي أعانني على ذلك. وكان يعني بكلمة "مَرْدَف"أنّ الشرطة قامت بـ "مِرْداف". لكنّ هذا الشابّ كان يجهل أنّ الفعل "ردف" هو فعل عربي فصيح كامل الفصاحة. نقول في العربية "ردف خطاه" أي تبعه. ومنها الترادف في اللغة والذي يعني تتابع المفردات من باب الشبه في المعاني. المفارقة الكبرى أنّ ذاك الشابّ يعرف اللفظة بالعبرية ولا يعرفها بالعربية! ولمّا ألجأته الحاجة إلى فعلٍ اشتقّ من الإسم العبري فعلا يناسبه، وكأنّ لغة العرب أضيق من لغة العبريين. وهذه الحالة مثال عابر على عمق الخطورة التي يفرزها الاستعمار اللغوي.

على العموم، يميّز علماء اللغة بين نمطين مركزيين اثنين في الاستعمار اللغوي:

الأول: تطعيم الكلام بشكل موازٍ بشيء من لغة المستعمِر على مستوى المفردات أو الجمل. وهكذا قد تسمع أحدهما يخاطب الثاني بلغتين متوازيتين مستقلّتين هما العربية والعبرية مثلا. وهذا التنقّل بين اللغتين في السياق الكلامي الواحد يحافظ على حدود كلٍّ من اللغتين بوضوح، ما يجعل الخطاب بالتالي ثنائيّ اللغة.. وما أوسع شيوعه بين شبابنا وشابّاتنا!

 الثاني: تعريب بعض المفردات والتعامل معها كما لو كانت في أصلها عربية من صميم اللغة. وهذه المرحلة "أخطر" من سابقتها لأنها تزيل الحدود نهائيًا بين اللغتين، وتُرهق العربية بالدخيل. حين تسمع أحدهم يقول "شَمَر"، "مَرْدَف"، "خَبّر"، ومثلها المئات من الكلمات، فاعلم أنها مصيبة كبرى. الخطورة في مثل هذا التعريب أو الاستيعاب القهري أنه يُبقي على صورة الدخيل كما هي ويُفرغ جهود الترجمة، التي تنهض بها مجامع اللغة، من معناها ووظائفها. ومن باب التمادي في التعريب قد يُجري الواحد منّا على هذه المفردات المستعمِرة ما تسمح به العربية من اشتقاق وتصغير واختصار حتى لتبدو فطرية طبيعية مسحوبة من عمق العربية.

ما يسرّع فعل الاستعمار اللغوي ويعمّق آثاره الكارثية هو السياسات العليا الموجّهة والهادفة إلى التجهيل. وأول أشكال التجهيل هو تحييد العربية وإحلال العبرية محلّها. يكفي أن ننظر إلى نتائج امتحانات "بيزا" لهذا العام حتى نتبيّن الهوّة المخيفة بين التعليم العربي والعبري في إسرائيل.هوّة مرعبة صنعتها سياسات خبيثة.

إبراهيم طه

أخبار ذات صلة