news-details

الملثّم | إبراهيم طه

في هذه الأيام العصيبة لا أخرج من البيت إلا فيما ندر. والاحتياط واجب خصوصًا أنّ الدولة قد وضعتني في دائرة الخطر. والجامعة أيضًا منعتني من الدخول إليها، حتى من دخول المكتبة منعتني، حرصًا على صحّتي وصحّتها. فأنا مثلما قالت لي الجامعة عندي عاملان من عوامل الخطر السكّري والضغط وليس واحدًا فقط. لا أخرج إلا إلى كرم الزيتون والعنب والتين حيث أسكن على طرفه. أعشّب وأسقي وأجمع أوراق الدوالي الطرية. أحرّك بدني، أغيّر جوًا وأشمّ هواء نقيًا وأعود بطبختين من ورق الدوالي وبعض الزعتر للفطاير. وأحيانًا أجد بعض بيوت العلت الفتيّة للسلطة التي طلعت آخر الموسم بعد الشتوات الأخيرة.  

هذه المرّة خرجت إلى ما هو أبعد. أجاءتني الحاجة إلى البنك لأسحب مبلغًا من المال ومن هناك إلى الملحمة. فالدنيا رمضان وورق الدوالي والعلت والبامية لا تغني عن الهبر. وعندما أخرج أحتاط فآخذ معي كمّامتي وقنّينة صغيرة من المعقّمات وأحيانًا يكون معي بالسيّارة بعض الكفوف. من باب الحيطة والحذر. ومن يدري؟! وقفت أنتظر دوري أمام الصرّاف الآلي. كان أمامي شابّ. لا يحمل معه شيئًا من هذا "الهبل" الذي أحمله أنا. لا كمّامة ولا معقّمات ولا شيء أبدًا من هذا القبيل. جاءت بعدي فتاة وقفت ورائي بعيدة عني ومعها كلّ شيء من مستلزمات الكورونا. عندما رآني الشابّ ابتسم لي ابتسامة عريضة، فيها شيء من الاستغراب والسخرية وجموح الشباب، وقال لي: "خايف يا عمّي إبراهيم؟!" لم أعرف الشابّ. فقلت دون تردّد: "نعم يا عمّي... خايف". هذه المرّة لم يكتف بالابتسامة بل صدرت عنه ضحكة عالية وهو يعطيني كتفيه متّجهًا إلى سيّارته.. وفي الملحمة كان أربعة من الزبائن واثنان من أصحاب المحلّ. كان الرجال كلهم ينظرون إليّ ويبتسمون، كما فعل ذاك الشابّ عند البنك بالضبط، وكأني ارتكبت إثمًا أو فعلت موبقةً أو ارتكبت فاحشة. لم يكن أيٌّ منهم يحمل ما أحمله. قال لي أحدهم: " شو؟ ملثّم يا أستاذ !!!" قلت: "نعم، الاحتياط واجب يا أبو العبد"... أعجبتني كلمة "ملثّم" لأنه قالها من باب المفارقة وليس من باب الحقيقة. أبو العبد خبيث. "ملثّم" كلمة مشحونة بظلال وتاريخ وأخلاقيات وثقافات متراكمة. وتذكّرت الشاعر والكاتب الأردني يعقوب العودات "البدوي الملثّم". وقصّة علي الجارم "الفارس الملثّم". وتذكّرت قصيدة "حبل صبحة" لطه محمد علي أبو نزار، رحمه الله، وصفورية التي تلثّمت بفقد بقرة أبي هاشم. "مدّة.. والبلد يخنقها أسى صامت ملثّم"... استعارة جميلة وموفّقة. 

ما هذا التلثّم؟ التلثّم تعبير عن نسق الستر والتستّر. التلثّم كتم وكبت وكظم. كظم المشاعر رجولة. التلثّم فحولة وشجاعة وفروسية. أما التلثّم في حالتي أنا فكان فعلا مناقضًا لمفاهيم التلثّم التقليدية. كمّامتي فضحت ضعفي. من هنا ابتسم من ابتسم وضحك من ضحك. إليّ وعليّ. كسرت القاعدة. عندما يموت أحدهم يتلثّم أهله بالحطّات حتى لا تفضحهم دموع الحزن والفقد. فالبكاء عند الرجال عيب حتى وإن كان على فقد عزيز. وبعض الكتّاب يتلثّمون حين يكتبون سيرة ذاتية أو شيئًا من هذا القبيل. يسترون عواطفهم وخضوعهم. يتحاشون الكتابة عن ضعفهم ويجمّلون قبائحهم. السيرة الذاتية التي كتبها محمد نفاع هي استثناء حميد في هذه المسألة. ما هذا التلثّم اللعين؟ أنا أحبّ اللثام بمعناه الآخر. أحبّ اللثام حين يعني صيانة اللسان. أحبّ الرجل إذا تلثّم وامتنع واحتجب عن قول الباطل وقال حقًا. أما لثام الفحولة والخجل من الحقيقة فلا أحبّه لا لي ولا لغيري لأنّ فيه مكرًا وتزييفًا.  وبصراحة، رغم أنّ الدنيا رمضان، أعجبني فعل التكثير "لثّم". وحين تقول لثّم الشابُّ الفتاةَ تعني أشبعها تقبيلا حتى باتت القُبَل لكثرتها كاللثام. هذا معنى جميل في اللثام وأصيل.. الله يسامحني ويسامح ذاك الشاب الذي كان عند البنك وأولئك الذين كانوا في الملحمة بمن فيهم أبو العبد.   

أخبار ذات صلة