news-details

المنهاج العربي والدرزي

قلّما يحدث أن ينبسط الواحد منا أو ينشرح أو تنفرج أساريره وعُقده لسبب خفيّ حييّ. لكن يحدث كثيرًا أن يتعكّر مزاجه، هكذا مرّة واحدة ودفعة واحدة بدون تمهيد وبدون سابق إنذار أو إخطار أو سبب ظاهر. فيعقدها تكشيرة مرعبة بين حاجبيه تقطع الرزق وتقطع الزيت من البيت. ويصير يبحث بسراج وفتيلة عن "مشكلة" من تحت الأرض حتى يفشّ فيها خلقه ويُفرغ فيها كلّ احتقانه. 

ليس سرًا أنّ السلطة الحاكمة في إسرائيل لا تتعامل معنا كأقلية قومية مجتزأة من شعب كامل له تاريخ وله جغرافيا وله أب وله أمّ ويرفض أن ينقرض. وليس سرًا أيضًا أن تواصل هذه السلطة فعل التجزئة لتجعلنا حمائل وقبائل وطوائف وشعوبًا كي لا نتعارف. فسوّونا "عربًا" أي مسلمين، هكذا هم يقصدون بالعرب، ومسيحيين ودروزًا وبدوًا. والطوائف فتّتوها إلى فُتات وفئات، إلى سنّة وشيعة وشرقيين وغربيين... ليس سرًا. فعلُ الفصل والتفريق والتشطير هو فعل سياسي ممنهج وممأسس، "يتعالق" فيه القول والممارسة في خطابهم ومخطّطاتهم. (وبالمناسبة، كلمة "يتعالق" مقصودة هنا حتى ينبسط الأديب محمد نفاع، رغم أنّ القصّة التي أحكيها تغمّ). ومحاولة فصل الطائفة الدرزية عن شعبها العربي الفلسطيني تظهر، أول ما تظهر، في تخصيص منهاج دراسي خاصّ ومستقلّ.   

دخلت مرّة إلى محاضرة في الجامعة وكانت في مساق متقدّم من مساقات الماجستير، وكان طبيعيًا إذَا أن نجد في مثل هذه المساقات المتقدّمة بعضًا من أساتذة اللغة العربية في المدارس. دخلت وكان مزاجي معكورًا كما قلت، دون أن أعلم لماذا بالضبط، وبفضل هؤلاء الطلبة/المعلّمين بدأت بالحديث عن مناهج الأدب العربي في المدارس. وكان أول حديثي عن مسخرة المنهاجين المستقلّين للعرب والدروز. مهزلة. شرّقت في حديثي وغرّبت. استطردت. حمقت. رفعت صوتي. شبّرت ولوّحت بيدي في كلّ الاتجاهات. أرغيت وأزبدت... فشّيت غلّي وهدأت قليلا. بعد أن هدأت سمعت طالبة  تتمتم من تحت إلى تحت وفهمت من كلامها المهموس أنّ حديثي في السياسة لم يعجبها. فنحن في الجامعة والجامعة للدراسة. هذا ما فهمته منها. قلت بيني وبين نفسي هي فرصة لأكسب بعض الأجر فكظمت غيظي. وأخذت أجاريها إلى منتصف الطريق وقلت لها: "أنت مُصيبةٌ في رأيك!". ابتسمتْ هذه الطالبة/المعلّمة ابتسامة انتصار وبدا واضحًا أنها لم تفهم قصدي!       

قرأنا قصة واحدة، هي نفسها في المنهاجين العربي والدرزي، أشبعناها تحليلا وتشطيرًا وتركيبًا ومقارنات ومقاربات ومفاضلات ومعاينات من كلّ زاوية ممكنة. لم نترك نظرية أدبية إلا وفحصناها أو أداة إجرائية إلا وجرّبناها في النصّ. أطلنا الشرح والتفسير والتأويل، اقتربنا من عمق النصّ في معانيه، ثمّ انفصلنا عنه وابتعدنا إلى دلالاته المحتملة والمقتحمة حتى وصلنا إلى الغريب منها... وحين انتهت المحاضرة المضاعفة بعد أربع ساعات متواصلة  قلت: "نواصل حديثنا في اللقاء القادم عن النصّ نفسه، لكن هذه المرّة من منظور درزي وليس من منظور عربي، مثلما فعلنا الآن، لأنّ الأمانة العلمية تقتضي أن ننصف المنهاجين". هكذا قلت وحاولت التحايل والتظاهر بالجديّة، وأنا أعترف بضعف قدراتي في التمثيل. نظرتُ بطرف عيني إلى تلك الطالبة (المعلّمة)، نفسها التي "لم يعجبها" الدخول في السياسة، فرأيت تضاريس وجهها بدأت تعيد انتشارها من جديد وتنتظم بشكل مختلف على مساحة وجهها القمحي حتى صار وجهها أشبه بشبه المنحرف، على حدّ تعبير محمد نفاع، أبو هشام، في إحدى قصصه. وقالت بامتعاض فطري حقيقي صادق: "ما هذا الكلام يا أستاذ؟! وهل هناك فرق  بين المنهاجين في هذه المسألة؟!" فقلت بامتعاض غير فطري وغير حقيقي وغير صادق: "عفوًا يا عزيزتي نحن في الجامعة والجامعة للدراسة ولا أسمح بالحديث في السياسة!" خرجت وكانت قهقهات الطلاب ترافقني إلى خارج الغرفة. 

أخبار ذات صلة