news-details

بِساسنا وبِساسهم

وجّهني إلى عزرائيل ولا توجّهني إلى دكتور، مع احترامي وتقديري. كان الطبيب يحضّر الإبرة، ينقفها بإصبعه ويلوّح بها أمام ناظريّ وكأنه يلوّح بإصبع عنبر!! لاحظتْ الممرّضة الروسية اللطيفة خوفي من الإبرة فحاولتْ أن تخفّف عنّي وتفضّ مغاليقي بالحديث معي... كانت عندها بَسّة عاشت معها 14 سنة. ماتت قبل سنتين. من مرض؟  لا.. كبر وهرم. وهي ما زالت تتذكّرها بشوق وحنين، ولم تفلح في نسيانها. وكيف تنساها وقد قضت معها نصف عمرها تمامًا؟!  هذه 14 عامًا بالتمام والكمال وليست يومًا أو يومين! كانت تنام في حضنها، تناغيها، تحمّمها بالصابون المطيّب، تسقيها، وتطعمها أفضل الأطعمة. لم تطعمها يومًا في حياتها العريضة من بقايا طعامها هي. وكانت تحرص على تطعيمها بكلّ التطعيمات اللازمة، وتعرضها على الطبيب البيطري بانتظام. وكانت تدوّن كلّ تفاصيلها الصحيّة وتوثّقها بدقّة في بطاقة خاصّة. حتى حين كانت تسافر إلى الخارج كانت تودعها في فندق خاصّ بالحيوانات الأليفة. وكان هذا يكلّفها الشيء الكثير... كانت الفتاة تتحدّث من عمق قلبها عن صدق مشاعرها.. تفاعلتُ معها صدقًا. وقلت لها من باب التخفيف عنها: "لا عليك يا عزيزتي فناسٌ كثارٌ كانوا يتمنّون أن يعيشوا مثلما عاشت بسّتك وأن يموتوا ميتتها! وأنتِ في الحقيقة لم تقصّري تجاهها، ولم يبق إلا أن تتذكّريها بالخير والرضى"... هدأتْ قليلا ثمّ سألتني "وأنتَ هل لديك بسّة في البيت؟".

نعم طبعًا، كان عندنا حيوانات كثيرة: بساس تتقافز حولنا، وكلب أسود لا ترينه إلا وهو يلوح بذنبه سعيدًا بحياته، ودجاج يتمرّغ بين المساكب وعلى البيادر، وعنزات شاميّة جميلة حمراء وبيضاء، وكم سخلٍ أسود مثل السعادين، وحصان رمادي أغبر طويل الساقين جميل ومؤدّب.. تفاجأتْ. صُدمتْ تمامًا. "أنتَ تمزح؟!" لا والله! وهل لديكَ محلّ في البيت يكفي لكلّ هذه الحيوانات؟! قلت: أرض الله واسعة تتّسع لكلّ خلقه. "وكيف كنتَ ترعاها كلها؟!" لا يا عزيزتي، كانت الرعاية متبادلة، أرعاها بقدر ما هي ترعاني. الرفق بالحيوان عندنا يقوم على معادلة الأخذ والعطاء. كانت بساسنا تساهم في تنظيف البيت من الفئران المقرفة والسحالي والعقارب والحيّات. وكان الكلب يتولّى مهمّة التنبيه في الليالي المعتمة والحراسة حين كنا نسرح مع المعزى. والحصان الأغبر وظيفته الحرث والنقل، يشتغل تراكتور وجيب دفع رباعي. والعنزات تدرّ الحليب. نبيع السخل، وبثمنه نشتري حاجتنا من القهوة والشاي والسكّر، وإن بقي باقٍ فللأحذية التي كنا نشتريها أكبر من مقاساتنا لثلاث سنوات لقدّام. والدجاج للبيض البلدي الأصفر. وحين كانت الدجاجة تهرم وتعتق كنا نسلقها في دست من الفجر حتى تستوي بعد الظهر.  وكانت كلها في المقابل تحظى برعايتنا واحترامنا. كنا نربّيها ونؤويها ونحميها من آفات التشرّد ونحرص على صحّتها. كنّا نجبّرها إذا انكسرت أو كُسرت. ونكويها إذا كان الكيّ آخر الدواء. وقوتها كان بوفرة من خيرات الطبيعة. تعيش بهدوء. تسرح وتمرح  كما كتب لها أن تعيش. لم نكن نسجنها بحجّة الرفق بالحيوان.. أنتِ سجّان يا عزيزتي!! نعم سجّان!! وهل خُلقت البسّة لتتمدّد على الأرائك الوثيرة والزرابيّ المبثوثة ولباسها من سندس وحرير؟ يأتيها طعامها من خلفها ومن أمامها وعلى الجانبين. وهل تظنّين يا عزيزتي أننا كنا نعيش أفضل منها؟! كانت حيواناتنا تعيش معنا مثلما نعيش نحن. لا أفضل ولا أسوأ. كانت تحتاجنا بقدر حاجتنا إليها. نتقاسم مهمّات الحياة الصعبة. وكلّ واحد وواجبه وفطرته التي فُطر عليها. نحن نحبّ الحيوانات حين تكون جزءًا من عائلة البيت، وليس عالة على البيت. نحن لا نخدمها مثلما خدمتِ أنتِ بسّتك. الدنيا أخذ وعطاء. بسّتك يا عزيزتي لم تعرف معنى العطاء. وكيف تعرفه وأنتِ لم تربّيها إلا على الأخذ؟

هذه هي معادلتنا يا عزيزتي مع الحيوانات. العيش حسب قوانين الفطرة عيشة طبيعية في الطبيعة، والمشاركة وتقاسم الإنتاج وتكافؤ الواجبات والحقوق.. كنا مبسوطين جدًا نحن وحيواناتنا بهذه المعادلة لأنّ فيها وحدة حال ووحدة مصير... قطبت الممرّضة جبينها وكشّرت أنيابها فهمت منها أنها تلعنني وتلعن معادلتي وتلعن اللحظة التي حاولت فيها أن تخفّف عني.

 

أخبار ذات صلة