news-details

غسيل "جيب مع وحل"

كانت قدّامي سيّارة واحدة.. "عشر دقايق بالكثير يا أستاذ".. قلت أقتل الوقت بمطالعة لائحة الأسعار المفصّلة المعلّقة هناك. كانت تشمل كلّ أنواع السيّارات الخصوصية والعمومية والتجارية والشاحنات والتراكتورات. وفي آخر القائمة سيّارات الجيب. "الجيب 100 شيكل. وجيب مع وحل 150 شيكل فما فوق".  هكذا كُتب في اللائحة بالضبط.. الحقيقة هذه أول مرّة في حياتي أرى مثل هذه اللائحة. ضحكت. لم أفرط من الضحك، لكني ضحكت ما يكفي لغرابة الحالة. ضحكت مرّتين لقولهم: "جيب مع وحل" وقولهم "فما فوق".  معنى الكلام أنّ هناك تسعيرتين مختلفتين للجيب، واحدة ثابتة والثانية متغيّرة: تسعيرة لغسيل جيب بدون وحل وتسعيرة لغسيل جيب مع وحل. غير أنّ تسعيرة الجيب مع الوحل تتغيّر، وهي تبدأ من 150 شاقلا فما فوق... "عيش كثير بتشوف كثير".  ثمّ ما قصّة التعبير "فما فوق"؟! ما معناه؟ هل معناه ادفع حسب مقدرتك أو حسب مزاجك أو ما يطلع من نفسك شرط أن يكون المبلغ فوق الـ 150 شاقلا؟ ثمّ قلت بيني وبين نفسي لعلّ المسألة متعلّقة بأمرين اثنين: كمّية الوحل ومحلّه. فإذا كان الوحل أكوامًا أكوامًا ومتيبّسًا فالمسألة تختلف. وإذا كان محصورًا حول الإطارات فله سعره الملائم، أما إذا رشق وغطّى الزجاج وسقف الجيب فالسعر عندها يختلف، يختلف إلى فوق طبعًا.. فهمت بعد السؤال والتمحيص أنّ كثرة الوحل العالق على الجيب هي علامة على القوّة والعزيمة وروح المغامرة عند الشباب.. هكذا قيل لي.      

مرّت أربع خمس دقائق وأنا أقتل الوقت حتى يأتي دوري. بقيت خمس ست دقائق. وكيف أقتلها هي الأخرى؟ كانت مفاجأتي لا توصف.  صدقًا.  هذه المرّة فرطت من الضحك، على الأقلّ في أول الأمر.. كانت اللافتة الأخرى التي رأيتها بالصدفة قد كُتب عليها بخطّ واضح ومشدّد: "الدين ممنوع.. الرجاء عدم الإحراج!"  في البداية ظننت أنّ الشباب أخذوها من إحدى البقالات أو المتاجر  في البلد، لافتة رماها صاحبها حين ترك الناس عادة الدَيْن!! أخذوها وعلّقوها في محلّهم من باب المزح. من المؤكّد أنها من باب المزح، وإلا ما علاقة غسيل السيّارات بالدَين؟!   "نعم.. يا حاجّ،  في إلنا 1000 شيكل دين على ناس غسلوا وسجّلوا على الدفتر!". ولا أعرف بالضبط لماذا حجّجني الشابّ هذه المرّة. أظنّ أنه قصد شيئًا يتعلّق بالحجّاج.  وقال أيضًا: "عنّا محلّ مشاوي كمان. الرغيف بـ 25 شيكل. شو رايك في شباب بوكلو رغيفين وبدَيْنوا!"  تنهّد الشابّ قليلا ثمّ استطرد وقال بلهجة هي خليط من الجدّ والهزل: "قُولْ الأكل ظروري. اللي جوعان بدّو يوكل.. أما غسيل سيّارة بالدين؟!"  أصحاب الوجوه الناشفة كُثار.  قلت بعربية فصيحة.  

لم تسعفني لغتي العربية هذه المرّة لتوصيف الحالة.  هل هذا الذي سمعته صلف أم صفاقة أم وقاحة أم قلّة ذوق أم قلّة حياء أم أنّ كلّ الخيارات صحيحة؟!  لا أعرف بالضبط.  ثمّ بحثت عن تفسير سياسي لهذه الظاهرة، حتى ترضى "الاتحاد" وتنبسط، لكني لم أهتدِ.  هل هو مخطّط استعماري أم ترويج لثقافة استهلاك أم سياسة تعطيل لهمم الشباب أم ترويج لتربية النصب والاحتيال... لا أعرف.  لا أعرف بالضبط. 

كنت وانا أطالع اللافتتين أجد نفسي مشدودًا بقوّة إلى عهد الطفولة والصبا.  كان الوحل علامة رجولة وشهامة وشرف وكدح وانتماء وصراع من أجل الحياة.  بدون شعارات. كنا نغوص حتى الركبتين بالوحل ونحن نبحث عن فطاريش "زقم العجل" في سهول البلد من الشمال والغرب بعد كلّ شتوة ترافقها عاصفة رعدية. والرعد ضروري للفطاريش، لأنّ الرعدة حين تفقس ينشقّ التراب فتطلع الفطاريش بسرعة، هكذا كنّا نظنّ. وحين كنا نبقل العلت والمرّار والخبيزة والسمميخة والحمّيض والسلق واللوف والفرفحينا والقرصعنّة كان الوحل يأكل طبقة كاملة من كعابنا الخشنة. بدون شعارات.. سبحان الله! الدنيا تغيّرت. اليوم الوحل صار لا يعلق إلا بالجيب وصار الشباب لا يغسلونه إلا  في محلّ  لغسيل السيّارات... وبالدَين!

أخبار ذات صلة