news-details

نشارة الحياة

علينا أن نتخيل ماذا لو أصبح نجيب محفوظ موسيقياً أو لاعب كرة قدم، ولم يهب حياته للكتابة؟

هذا ليس محض خيال. عندما كان محفوظ في ريعان الشباب حلم بتحقيق الأمرين أو واحد منهما، أي أن يصبح لاعب كرة قدم مشهوراً أو موسيقياً، وهذا ما أكّده هو نفسه للناقد الراحل رجاء النقّاش. وإن كان محفوظ لم يشرح ما بذله من جهود لكي يصبح لاعب كرة قدم، فإنه أفاض في الحديث عن ولعه بالموسيقى والغناء، اللذين حمله حبه لهما على الالتحاق بمعهد الموسيقى ودرس فيه عاماً كاملاً.

ويعتقد محفوظ أنه لو وجد يومها توجيهاً سليماً من أحد لتغيّر مسار حياته واختار طريق الموسيقى وليس الأدب، فمن شدة فتنته بالموسيقى كان يمكن أن يحترفها، "ولكن كان للقدر تصاريف أخرى". ولا ندري كيف كان سيكون الأمر لو خسرنا محفوظ كاتباً وكسبناه موسيقياً؟

أنفق محفوظ سبعة وثلاثين عاماً في الوظيفة. لنا أن نتخيل كاتباً بهذه الأهمية والمكانة يعطي الوظيفة كل هذا العمر الطويل، ومع ذلك ينتج، خلال سنوات وظيفته، كل هذا الإنتاج الروائي والقصصي المبهر. كثير من كتاب اليوم يشكون من عدم التفرغ كي ينصرفوا إلى إبداعهم، وليسوا في ذلك مخطئين. نجيب محفوظ نفسه يقرّ بهذا الأمر.

في الحوار نفسه مع النقاش، أوضح محفوظ أنه من المستحيل أن يتفرغ الأديب في بلادنا لعمله الأدبي وحده. لو كانت أوضاعنا كما هي في أوروبا، وصدر له كتاب مميز لتغيرت حياته، واستقال من الوظيفة وتفرغ للعمل الأدبي؛ لأن إيراد الكتاب المميز هناك يكفي لاتخاذ مثل هذه الخطوة.

لكن ما من كاتب عربي وربما غير عربي أفلح في أن يجعل من الوظيفة مادة لعمله الإبداعي مثل نجيب محفوظ؛ فهو إذ يأسى على الوقت الذي أهدرته الوظيفة من عمره كرجل مبدع، يؤكد أنه لم يستسلم، وسعى لتطويع الوظيفة في إثراء كتابته.

الحياة الوظيفية أعطته، كما يشير، مادة إنسانية عظيمة، وأمدته بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباته. "الوظيفة علمتني النظام والحرص على أن أستغل بقية يومي في القراءة والكتابة، وأن أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة، مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه"، والقول له.

حين شكا له رجاء النقاش من ابتلاع عمله الصحفي وقتَه وعمرَه، نصحه محفوظ بألّا يستسلم، وقال له جملة بليغة علمته أن يكف عن الشكوى. قال محفوظ: "اسمع! أنا صنعت نفسي وأدبي كله من (نشارة) الحياة".

أخبار ذات صلة