news-details

المصريون القدماء عرفوا فن الرسم مبكرا

القاهرة- من حازم خالد- منذ عدة آلاف من السنين قبل الميلاد، وقبل أن يبزغ للتاريخ فجر تتبين فيه الشواهد الدالة على تاريخ الإنسان، عاش سكان وادي النيل الأدنى على التلال والوديان العالية التي تحيط بالنيل في هذا الجزء من مجراه، وكانت حياتهم تقوم أساسًا على التجوال وصيد الحيوان، ثم جاء حين من الدهر استطاعت فيه تلك الجماعات من السكان أن تجد الوسائل المضمونة للحياة المستقرة على ضفاف النيل، فأنشأوا القرى، ومارسوا الزراعة كحرفةٍ أساسية.

ويرى وليم هـــ. بيك في كتابه "فن الرسم عند قدماء المصريين" أنه من حسن الحظ، أن وصلت إلينا آثار عديدة من الأعمال والإنتاجات الفنية لكل مجتمعٍ من هذين المجتمعين – مجتمع الصيد ومجتمع الزراعة – وتبين تلك الآثار بوضوحٍ مدى الاتفاق والاختلاف في خصائص كل فنٍّ عن خصائص الفن الآخر.

مجتمع الصيد مثلًا كان همه الأكبر هو الحيوان الذي يُطارَد لاصطياده، لذلك فقد كانت صور ورسوم "الحيوان" هي الغالبة في تلك الآثار الفنية التي تركها هذا المجتمع البالغ القدم. وفي البداية كانت أغلب رسوم الحيوان تصوره في حالة "سكون" باعتبارها الوسيلة الأسهل في التعبير الفني، ثم تطور الأمر بعد ذلك وسُجلت رسوم عديدة تصور الحيوان في حالة "حركة" وهي طريقة تدل على تطور الأسلوب والتكتيك، وقد اختلفت آراء العلماء وتباينت مواقفهم من الأسباب التي ألجأت بعض أفراد ذلك المجتمع لممارسة العمل الفني.

بعضهم قال إن تلك الأعمال الفنية قد مورست لأسبابٍ ترجع إلى العقيدة ومراسم السحر. وبعضهم قال بأسبابٍ ترجع إلى رغبة بعض ذوي المواهب من أفراد ذلك المجتمع في قضاء وقت الفراغ في الاستمتاع بممارسة العمل الفني الذي يثبت مهارة هؤلاء الأفراد وتميزهم على الآخرين.

كما قال علماء آخرون بنظرية "حب التقليد"، وهي نظرية ذات شقين: رغبة الإنسان في تقليد الموجودات والمخلوقات المحيطة به، ولو كان ذلك برسم خطوط على حائط أو على جانب صخرة من جبل أو تل، بالإضافة إلى رغبة الإنسان في تقليد أعمال أسلافه، سواء أكان ذلك بالالتزام بنفس الشكل والمضمون، أو بالتغيير أو التطوير أو التعديل والإضافة في كلٍّ من شكل الموضوع ومضمونه ، ولا شك في أن هذا الأمر يحتمل هذا الأسباب كلها.

أشكال زخرفية معقيدة

ويذكر المؤلف أنه عندما استقرت الحياة على ضفاف النيل، وأنشئت القرى والمدن في مناطق مختلفة على طول مجرى النهر، بدأت إرهاصات جديدة لفن مختلف، قُدِّر لبذرته أن تنبت وتزدهر وترسخ، وقادرة على الإزهار والإثمار لآلاف تالية من السنين.

كانت البدايات الفنية آنذاك ساذجة وبسيطة بطبيعة الحال، حيث ظهرت في شكل خطوط حفرت حفرًا هينًا على سطح القدور والأواني الفخارية، وقد تنوعت أشكال تلك الخطوط بين خطوط متصلة محزوزة أو خطوط منقوطة، أي مكونة من نقطٍ متوالية متقاربة، محفورة مستقيمة أو متموجة، تتعامد على بعضها البعض أحيانًا، أو تتوازى مع بعضها البعض أحيانًا أخرى، أو تأخذ شكل المثلثات والمربعات والمستطيلات.

وفي مرحلةٍ تالية، بدأت هذه الخطوط الزخرفية تلين وتزداد مرونة، وبدأ ظهور أشكال تمثل الأوراق والغصون النباتية، وأشكال النجوم السماوية، وأشكال زخرفية أخرى أكثر تعقيدًا تحاكي ضفائر السلال المتداخلة.

وهكذا انطلقت يد الفنان القديم وراء انطلاق خياله وابتكاره، فظهرت الزخارف التي تعتمد على أشكال حية كالإنسان وأنواع أخرى من الحيوان كالتماسيح والفيلة والأسماك والكلاب المستخدمة في عمليات الصيد، كما كثر ظهور القوارب والسفن النيلية والبحرية بشكلٍ ملحوظ، إلى آخر تلك الأشكال الفنية المسجلة على ما عثر عليه من آثارٍ يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الأسرات (في الألف الخامسة قبل الميلاد).

عصر الدولة القديمة

وفي عصر الدولة القديمة صاغت مصر عصرها الذهبي، فقد بلغت الدولة أعلى مراحل "القوة" في شكل حكم مركزي شامل بلغ الشعب فيه أعلى مرحلة في الإحساس بالأمن والاستقرار، والإحساس بأن الشعب بجميع فئاته وأفراده عبارة عن جزءٍ لا يتجزأ من النظام الذي تتحكم فيه مؤسسة الحكم، وعلى رأسها الملك الذي يرأس أيضًا المؤسسة الدينية التي سيطرت على كل مناحي الحياة في جميع أقاليم الدولة.

وكان من الطبيعي إذن أن يحتاج النظام إلى تأهيل العديد من الفئات والأفراد الذين ينفذون أوامره ويحققون أغراضه، ولهذا فقد أطلقت الحرية بأوسع معانيها أمام أصحاب الكفاءات الفنية من رسامين ومصورين ونحاتين للنحت البارز والغائر ونحاتي التماثيل والمهندسين المعماريين. كما تهيأ المناخ الثقافي لظهور نهضة فلسفية وأدبية لم يشهدها من قبل أي مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية في العالم القديم كله.

وفي عصر الدولة القديمة رسخت التقاليد الأسلوبية، وقننت القوانين والقواعد التي تحكمت في الفن المصري القديم بجميع إنتاجاته على مدى ثلاثة آلاف سنة وأكثر. وقد ارتبطت هذه التقاليد والقوانين بمفهوم "الكون" لدى قدماء المصريين، ولذلك فقد ظلت على ثبات مقدس لا يمكن الخروج عنه بحال، لأن أي خروجٍ على هذا "النظام" الذي يحكم الفن، كان معناه خروجًا على نظام الكون وتدميره.

من هذه القوانين الملزمة مثلًا تحديد أجزاء الجسم البشري التي ترسم أو تصور أو تنقش من زاوية "البروفايل" والأجزاء الأخرى التي تسجل من "الواجهة الأمامية"، وأن تصور المرأة مضمومة أو متجاورة الساقين تعبيرًا عن الحياء والاحتشام، بالإضافة إلى الإبراز المستمر والدائم لحركة يدي المرأة حين تضع إحدى يديها على صدرها في أنوثةٍ معبرة، وقورة ومثيرة في الوقت نفسه، أو تمسك بإحدى يديها ذراع زوجها أو تضعها على كتفه أو تلفها حول خصره، دلالةً على المجتمع الحضاري المتمسك بالحياة الأسرية المستقيمة القائمة على أساسٍ من قوة العلاقات وجو الطمأنينة والأمان الذي كان يسود الحياة الاجتماعية لمختلف طبقات الناس.

كذلك فقد رسخ القانون الذي ألزم الفنانين بتصوير الرجل وهو يقدم إحدى ساقيه عن الساق الأخرى، تعبيرًا عن قدر الرجل الخالد في التزامه بالسعي وراء الرزق بالهمة الواجبة والإقدام الحثيث على أداء عمله وتخصصه في الحياة أيًّا كان هذا التخصص.

ومن هذه القوانين أيضًا ما التزم به الفنانون المصريون القدماء من قواعد معينة عند قيامهم بالتعبير الفني عن صورة الملك أو الفرعون، حيث كان لا بد أن يبدو أكبر حجمًا من كل الآخرين الموجودين في الصورة معه، حتى ولو كانت من بينهم الملكة نفسها. ولا بد أيضًا أن تكون صورة الملك (أو الملكة أو أي شخصٍ رئيسي في أي منظرٍ مستقل) صورة ذاتية شخصية تنطبق ملامحها تمامًا على ملامح صاحبها، حتى تستطيع الروح أن تتعرف عليه في العالم الآخر. ولا بد كذلك أن تظهر صورة الفرعون على وجه الخصوص وهي خالية تمامًا من أية عيوبٍ خلقية أو دنيوية، ويفيض منها التعبير عن الوقار و والعظمة والقوة.

ومن القوانين التي رسخت تمامًا في عالم التعبير الفني في عصر الدولة القديمة تصوير الأطفال من الذكور أو الإناث وهم عرايا الأجساد، ويضعون أصابعهم "السبابة" على أفواههم كرمزٍ للتعبير عن حاجة هؤلاء الأطفال إلى من يرعاهم ويعولهم لحداثة أعمارهم.

يذكر أن كتاب "فن الرسم عند قدماء المصريين" تأليف: وليم هـــ. بيك ، ترجمة وتحقيق: مختار السويفي، مراجعة وتقديم د. أحمد قدري، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .

أخبار ذات صلة