news

الأزمة المالية العالمية.. المتوازيات التاريخية

يكتب نيال فيرغسون المؤرخ الأميركي الشهير، وأستاذ مادة التاريخ في جامعة «هارفارد»، عن الأزمة المالية العالمية الحالية مقارناً إياها مع أزمة الكساد الكبير عام 1929، معتبراً أن ما يشهده العالم اليوم هو نسخة جديدة عن ذلك الكساد. إن كل من يعتبر أن الولايات المتحدة تتجه اليوم صوب الركود الاقتصادي وليس الكساد الاقتصادي، إنما يعيش حالة إنكار. فإذا ما ألقينا نظرة تحليلية سنوية على واقع الاقتصاد الأميركي، فإننا سنجد انخفاضاَ ملحوظاً في الإنتاج الصناعي، ومبيعات التجزئة الحقيقية. أما معدلات البطالة فقد وصلت في وقت مبكر من هذا العام إلى أعلى مستوياتها منذ خمس سنوات. والسؤال هنا: هل نتوجه نحو ركود اقتصادي قصير المدى، معتدل نسبياً كالذي شهدناه في العام 2001، أما إننا نتوجه صوب نسخة حديثة من الكساد الكبير الذي مر به العالم في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي؟
يميل البعض إلى اعتبار أن سبب أزمة عام 1929 المالية هو انهيار سوق الأسهم. ويقال إن أزمة «وول ستريت» بدأت في الثلاثاء الأسود 24 تشرين الأول 1929، يوم انخفض مؤشر «داو جونز» 2 بالمائة. ولكن مسيرة تهاوي الأسواق المالية تعود الى أيلول 1929. وفي الاثنين الأسود 28 تشرين الأول من العام نفسه، انخفض هذا المؤشر 13 بالمائة، وفي اليوم التالي، 12 بالمائة. وفي الأعوام الثلاثة التالية، هبط هذا المؤشر 89 بالمائة، وبلغ الحضيض في العام 1932.
وفي 29 أيلول من هذا العام، وعلى أثر رفض الكونغرس إقرار خطة الإنقاذ التي قدمها وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون، هبطت الأسعار في سوق الأسهم، وانخفض مؤشر داو جونز 7 بالمائة، ومنذ تشرين الأول 2007، تدنى هذا المؤشر 25 بالمائة.
ومع ذلك، يبقى السبب الأساسي لأزمة 1929 الاقتصادية الكبرى هو تقليص حجم القروض جراء إفلاس المصارف التجارية، وذلك حسبما يؤكد بالحجج والقرائن كل من ميلتون فريدمان، وآنا جاكوبسون شوارتز، في كتابهما (التاريخ النقدي للولايات المتحدة 1867- 1960)، الذي نُشر عام 1963. سبق أزمة القروض انهيار أسواق الأسهم بشهور، وبلغت الأزمة ذروتها في نهاية 1930، مع إفلاس 608 مصارف، ومنها مصرف الولايات المتحدة. وبحسب فريدمان وشوارتز، كان في مقدور الاحتياطي الفيدرالي تخفيف شدة الأزمة عن طريق خفض نسبة الفوائد، وتوفير القروض، وشراء السندات، (وهو ما سمي بعمليات السوق المفتوحة). ولكن الاحتياطي الفيدرالي قلص حجم قروضه للنظام المصرفي، وأسهم في تفاقم الأزمة. فاضطرت مصارف أمريكية إلى بيع أصولها للحصول على سيولة.
ومع موجة إفلاس المصارف الثانية، في العام 1931، بين شهري شباط وآب، انخفض حجم الودائع المصرفية التجارية 2,7 مليار دولار، أي 9 بالمائة من إجمالي الودائع. وفي كانون الثاني 1932، أشهر 1860 مصرفاً إفلاسه. ولم تحل محاولات الاحتياطي الفيدرالي مواجهة أزمة السيولة دون اتساع موجة انهيار المصارف الثالثة، في نهاية 1932. وإثر انتشار إشاعات عن نيّة إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت الجديدة خفض سعر الدولار، تهافت الناس على بيع الدولار وشراء الذهب. فزاد الاحتياطي الفيدرالي نسبة الخفض، وعبّد الطريق أمام إعلان الرئيس روزفلت إعطاء المصارف (إجازة)، في 6 آذار 1933، أي بعد يومين من توليه المنصب، ولم يعد 2500 مصرف من تلك الإجازة!
الاختلاف الواضح بين أزمة 1929 والأزمة الحالية هو تعلم رئيس الاحتياطي الفيدرالي «بن بيرنانكي»، من دروس التاريخ. ومنذ بداية أزمة الائتمان في آب 2007، خفّض بيرنانكي سعر الفائدة دورياً إلى معدلات مؤثرة وصلت مؤخراً إلى 0,25 بالمائة، وضخ أكثر من تريليون دولار في النظام المالي. وعلى خلاف أزمة 1929، ويومها استبقت الحكومة وقوع الخزانة في عجز، واقتطعت نفقات الحكومة على الرعاية الصحية، ورفعت معدلات الضرائب، لم تسعَ إدارة بوش إلى تخفيض عجز الموازنة، بل زادته. وقد علّمنا جيل من الاقتصاديين تتلمذ على يد «جون ماينارد كينيز»، أن هذا هو بالضبط الإجراء الخاطئ الذي يتم اتخاذه. وبحسب كينيز، يحفز عجز الخزانة حركة الطلب.
يقول البعض لا يمكنك حل مشكلة ما عبر إلقاء المال عليها. هذا ما فعله كل من الاحتياطي الفيدرالي، ووزارة الخزانة حين سارعا إلى تهدئة مخاوف المستثمرين والشركات والمصارف، وضخا حوالي تريلوني دولار، إثر دعم بيع «بير ستيرنز» وتأميم «فاني ماي» و«فريدي ماك»، وبيع «واشنطن موتشويل» و«واشوفيا». وإن لم يعتبر كل ذلك كساداً عظيماً، فهو إذاً حالة إنكار للكساد!

* عن مجلة «تايم» الأميركية
ترجمة: عادل بدر سليمان