news-details

قصّة: العنوان| محمد علي طه

أوّل الكلام//

    اكتشفت بالصّدفة أنّني بلا عنوان في بطاقة هويّتي الزّرقاء التي رفضها ورماها على الأرض رئيس حكومة إسرائيل الأوّل خواجا بن غوريون بعدما شاهد الحروف العربيّة عليها في حين تمسّكنا بها نحن العرب الباقين في وطننا برهانًا على وجودنا وعلى بقائنا. وذهلت لهذا الاكتشاف النّيوتونيّ الذي أثار مخاوفي بعد أن سمعت قبل أسابيع قليلة أنّ الوزير الرّغيفيّ المدعو ايتمار بن غفير يرغب بتصحيح خطأ بن غوريون الذي سمح في لحظة إنسانيّة نادرة ببقائنا في وطننا. ولا يحترم بطاقة الهويّة الزّرقاء ولعلّه يقول لحامليها ودافنيها في صدورهم: "لا تفرحوا على سخام ستّاتكم !" وستّاتكم بالعاميّة المحلّيّة معناها جدّاتكم . والسّخام على ذمّة القاموس هو سواد القدر، وسخّم الله وجه فلان أي سوّده وأظنّ وبعض الظّنّ اثم أنّ كلمة سخام هنا تعني نكاحًا . وإذا كانت بطاقة هوّيتي لا تحمل عنوانًا واضحًا لي فهذا يعني في عرف معالي وزير آخر الزّمان أنّني على الأرض سائح، وأنّ هذا الوزير الحامل للأوزار يرى أنّ ما فات مات، ولا بدّ من تصحيح الخطأ، كي ينام ويستريح بعدما منع الرّغيف العربيّ الذي يعجنه ويخبزه الأسرى الفلسطينيّون معتقدًا بعقليّة هبنّقة أنه بمنع رغيف الخبز يوقف المقاومة ومعاداة الاحتلال.

    لا تفغروا أفواهكم عجبًا، ولا تسقط أحناككم إذا وجدتم أنّ عبد الله العربيّ في النّاصرة وأم الفحم ورهط منذ رمى خواجا بن غوريون بطاقة الهويّة إلى أن وصل إلى سدّة الحكم شابّ من ظهر مؤرّخ وشرعن إعدام حرف الضّاد في قانون القوميّة، وهو يعيش في وطنه ومسقط رأسه بلا عنوان. وحدث قبل موسم انتخابيّ، وبعد أن تجاوز عدد القتلى العرب في ذلك العام المائة شخص في حوادث العنف في حرب داحس والغبراء أن دعاني نائب عربيّ في الكنيست الذي هو برلمانهم في الكلام الغربيّ وهو مجلس الشّورى عند أمّة لا إله إلا الله، وبينما كنت صاعدًا الدّرج إلى القاعة وأنا أردّد في سرّي: والله صرت في الكنيست يا عبدالله، وإذا بصوت يصرخ: "محبيل محبيل" فلمّا التفتّ إلى مصدر الصّوت وجدت رجلا ربعة يعتمر "كيباه" وفي عنقه ربطة عنق والحقد ينبثق من عينيه يشير إليّ ويردد محذّراً "محبيل محبيل" وهذا معناه بالعربيّة الفصحى "مخرّب" فقلت له: "يحبّل أختك" فهجم عليّ كما يهجم الذّئب الصّحراويّ على فريسته فقلت: يا عبد الله، إذا كان لا بدّ من الموت فمن العار أن تكون جبانًا، فالتقى الكفّ بالكفّ، والذّراع بالذّراع، والسّاق بالسّاق، فجندلني وجندلته وسقطنا على الدّرج وتدحرجنا والواحد منا قابض على تلابيب الآخر وكان يشتمني "يلعن الجمل اللي حمل أبوك!" فأشتمه "يلعن البابور اللي حمل امّك" وتبيّن لي أنّه حمار. لا يدري أنّ والدي جاء من الحجاز إلى البلاد على ظهر ناقة وألّا خبز له عندي في حرب الشّتائم. احِمّ. إحِمّ!! وذكّرني معاليه "يلايَلّي" بهبنّقة الذي كان يرعى غنم أهله فيرعى السّمان في العشب وينحّي المهازيل، فقيل له: ويحك ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلحه الله ولا أصلح ما أفسده. ومن حمقه أن جعل في عنقه قلادة من وَدَع وعظامٍ وخزف، فسئل عن ذلك فقال: لأعرف بها نفسي ولئلّا أضلّ. فهل نعيش في زمن يحكمنا فيه هبنّقة أم الوزير الرّغيفيّ؟

    هذه الحالة الغريبة التي لم يعثر عليها السّندباد البحريّ في الجزر النّائية جعلتني أردّد في ساعات الضّيق: "ما كنتُ" وأصمت أو "ما كنت أوثر". وكي لا أقع تحت طائلة القانون في زمن القوننة وبخاصّة أنّ العربيّ في بلادنا متّهم بكلّ التّهم حتى تثبت براءته لذلك فعلت ما فعله الشّاعر الأديب أبو العلاء المعرّيّ عندما كان في ديوان الشّريف المرتضى في بغداد ودار حوار أدبيّ عن شاعريّة أبي الطّيّب المتنبّيّ فطعن المُضيف بشاعريّته فصمت المعرّيّ غاضبًا وكيف لا يغضب وقد شرح ديوان المتنبّيّ وأسماه معجز أحمد الا أنّه تنحنح وقال: المتنبيّ شاعر عملاق وتكفيه قصيدته "لك يا منازل في القلوب منازل". فأمر الشّريف المرتضى بطرد الأديب من المجلس شرّ طردة. ولما سأل أحد النّدماء الشّريف المرتضى عن سبب طرد الأديب الشّاعر أجاب: هذا الأعمى يقصد بيتًا في القصيدة يقول: اذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشّهادة لي بأنّي كامل. وأنا اليوم أترحّم على الشّاعر الطّغرائيّ صاحب "لاميّة العجم" التي مطلعها:

                         أصالة الرّأي صانتني عن الخطل

والتي فيها البيت المشهور : "ما كنت أوثر أن يمتدّ بي زمني" وزيادة في التّقيّة بدّلتُ كلمة "دولة" بكلمة "سلطة" بدون استشارة الشّاعر أو المحافظة على حقوق المؤلّف ويبدو أنّي أحسنت الظّنّ بمعالي الوزير الرّغيفيّ فمن أين له أن يحفظ الشّعر وهو لم يسمع مطلقًا بالمعرّيّ والمتنبّيّ والطّغرائيّ بل من المؤكّد أنه لم يقرأ بياليك ويهودا عميحاي !!

 

بداية الرّواية//

    فرحتُ في ظهيرة هذا النّهار فيما أنا عائد إلى بلدتي وأقود سيارتي الصّغيرة على مهلي كأنّني "أمشي على بيض" كما نهرني سائق شابّ اجتازني، فالسّائقون الشّبّان والسّائقات الشّابّات – ما أحلاهن – كانوا يرخون العنان لزوامير سيّاراتهم، ومن المرجّح أنّهم كانوا يلعنون عضوًا من أعضاء جسد أم معلّم السّياقة أو جسد أخته الذي درّبني على قيادة السّيّارة أو يشتمون الممتحن الذي أجازني للسّياقة.

    أقول "فرحت" على الرّغم من ندرة الفرح في هذه الأيّام العصيبة التي صار فيها الذّئب راعيًا لقطيع الحملان، وصار ابن آوى ناطورًا على قنّ الدّجاج  ، وصار القطّ حارسًا لقدر الحليب، ولكن والدتي قالت لي مرّات عديدة: لقمة الفرح إذا لم تستطع أن تتناولها فاسرقها وكُلْها ! ولقمة الفرح هي وجبة العرس أو وجبة العقيقة أو وجبة الختان أو أيّة وجبة تُقدّم في مناسبة سعيدة. وأرجو أن أكون قد شوّقتكم لمعرفة سرّ هذا الفرح.  وهذا الأمر ليس حزّيرة من تلك الحزازير التي كنّا نطرحها على بعضنا في سهراتنا في أيّام ولّت بعدما سيطر الجوّال على سهراتنا العائليّة وصار أفراد العائلة يسهرون بدون كلام، وصار الشّابّ يغازل الصّبيّة بدون كلام فأنامل كلّ فرد من أفراد العائلة تداعب جوّالها الذي صار سيّد القعدة وأمير السّهرة. وأمّا علّة فرحي فهي كبيرة عندي ولعلّها صغيرة عندكم. فقد صار لي عنوان في بلدتي. هذه القرية التي كانت على مرّ عقود عزلاء منسيّة، وشوارعها بلا أسماء كما قال الشّاعر.

    عشتُ عقودًا وأنا بدون عنوان وكان أهل الرّأي والشّورى يسخرون مني في بعض الحالات ويستغربون في حالات قليلة أخرى حينما يسألونني عن عنواني فأذكر لهم اسم قريتي ولا أذكر اسم الشّارع أو رقم البيت كأنّنا نعيش في جزيرة نائية.

    كان لقائي الأول مع البريد في العام 1960 عندما كنت شابًّا يافعًا. وصل موزّع البريد قادمًا من قرية طمرة المجاورة يرتدي ملابس رسميّة خاصّة لموزّعي البريد ويعتمر قبّعة غريبة. وكان يسأل عنّي الرّجال والنّساء والأطفال الذين يصادفهم في طريقه حتى اهتدى اليّ وسلّمني رسالة عليها طابع بريد وطلب منّي أن اوقّع اسمي الثّلاثيّ على ورقة رسميّة فيما كانت ثلاث نساء من حارتنا ينظرن إلينا مشدوهات، وبلغت دهشتهنّ الذّروة عندما سمعوه يقول لي بأنّه تعب وهو يسأل كلّ من صادفه عنّي. وسمعت جارتنا زينب الحسن تقول: ما شاء الله. صارت الحكومة تسأل عن ابن عزيزة. مع أنّ الصّوص خرج من البيضة قبيل أيّام. وبعده ما صار مختار أو عضو لجنة !!

    ولم اعلّق على كلام زينب لأنّها امرأة سليطة اللسان أي "شَلَقَة" بالتّعبير القرويّ وتتجنّبها نساء الحارة اذا تشاجر ابنها عثمان مع ولد من الأولاد وعاد اليها باكيًا .

    مضت إلى غير رجعة عشرة أعوام بعد تلك الرّسالة وأنا بدون عنوان، ولا يهتدي إليّ غريب. وفي أواخر ستّينات القرن العشرين افتتح إعلاميّ اسرائيليّ شابّ برنامجه الاذاعيّ في إذاعة إسرائيل العبريّة بأنّه رغب بالاتصال بالأديب الذي يسكن في قرية كابول في الجليل، ولا يملك عنوانًا له، فاتّصل بدائرة الهاتف في وزارة البريد كي يحصل على رقم هاتفه فاخبروه بعدم وجود خطّ هاتفيّ يربط القرية بالمدينة أو بالدّولة فقرّر أن يرسل برقيّة للأديب يخبره فيها عن زيارته له وباليوم وبالسّاعة التي سيتمّ بهم اللقاء فأخبرته دائرة البرق في وزارة البريد بألّا اتصال برقيّ مع هذه البلدة النّائية لعدم وجود هاتف فيها، وأبدى الإعلاميّ استغرابه من وجود قرية في هذه الدّولة العصريّة بلا خطّ هاتف ومنقطعة عن العالم الخارجيّ، فلا عنوان للكاتب فالشّوارع بدون أسماء والبيوت بدون أرقام والقرية بدون كهرباء وبدون تلفون. وتابع الاعلاميّ: حينما وصلت الى القرية ساعدني أحد الفتيان بالوصول الى بيت الأديب فوجدت مجموعة من الأولاد يلعبون في ساحة منزله فسألته: لماذا يوجد عندك عدد كبير من الأولاد؟ فأجابني لا يأتي الى قريتنا مهاجرون جددٌ وأمّا زيادتنا الطّبيعيّة فهي من أرحام نسائنا.

استغرب الاعلاميّ التّل أفيفي كيف نعيش بدون كهرباء وبدون تلفون فحدّثته عن قصة لي اسمها "كتاب في القرية" كتبتها بعد صدور مجموعتي القصصيّة الأولى "لكي تشرق الشّمس" في العام 1964 وفيها فقرة عن قرويّ عانى من مرض البواسير، وبعد آلام قاسية وزيارات لعيادة الطّبيب في المدينة قرّر الطّبيب أن يحرق له البواسير بالكهرباء وهي عمليّة مؤلمة جدًّا تجعل المريض يصرخ عاليًا من شدّة الوجع وأمّا القرويّ فكان يقهقه كلّما مسّت الكهرباء مؤخّرته فاستغرب الطّبيب لأنّ جميع المرضى الذين يعالجون بهذه الطّريقة يصرخون من الألم فسأله: لماذا تضحك؟ فأجاب: أضحك.. لأنّ الكهرباء وصلت الى طيزي قبل أن تصل الى قريتنا يا حضرة الحكيم!

ومعذرةً على استعمال هذه الكلمة التي تبدو نابية فقد حاولتُ أن أستعيض عنها بكلمة مؤخّرة أو شرج أو إست فوجدتُ أنّها لا تفي بالمعنى.

    وبعد سنوات من نشر قصّتي في احدى الصّحف في البلاد ثمّ في مجموعتي القصصيّة الثانية "سلامًا وتحيّة" سمعت القصّة أو الطّرفة بحذافيرها في مسرحيّة ساخرة قدّمها الفنّان السّوريّ المشهور دريد لحّام المعروف بغوّار الطّوشة وكتب نصّها الشّاعر والأديب السّوريّ محمّد الماغوط وتساءلت: هل قرأ الأديب السّوريّ قصّتي أم أنّ الأمر توارد خواطر؟ أم أنّ الشّعوب تتشابه في الهمّ والوجع والفكاهة؟ قريتنا تكاد تكون حارة قديمة في دمشق والنّاس يعرفون دمشق منذ كانت عاصمة للأمويّين مرورًا بمعاوية بن أبي سفيان وعبد الملك وأبنائه حتى مروان الحمار ويعجبون من الشّام ويغنّون في الأعراس "شاميّة وجاي من الشّام، من الشّام جاي الشّاميّة، عيونها عيون الغزلان، خدودها وردة جوريّة، حواجبها جوز أقلام، مثل السّيوف المحنيّة، يا صديرها كواز الرّمان، قطف قطف بيديّة" ويزعم الخبيرون بمجال النّساء أنّ المرأة الشّاميّة هي أجمل نساء الأرض ولا تنافسها في هذا المجال سوى غريمتها المرأة الايطاليّة. وأقول كلّ هذه الثّرثرة كي أؤكّد على أنّه لا يصحّ لي أن اربط قرية نائية مجهولة لا ذكر لها في الخرائط والأطالس بمدينة كبيرة كانت وما زالت عاصمة الثّقافة والفنّ على الرّغم من أنّ قريتنا مذكورة في كتاب "العهد القديم".. في سفر "الملوك" بعد أن أهداها الملك سليمان بن داود مع منطقتها الى ملك حيرام الذي اهداه الخشب اللبنانيّ القويّ والثّمين لبناء الهيكل في القدس ويقال أنّ حيرام عندما زار المنطقة لم تعجبه فأعادها الى سليمان بلا أسف. لماذا فعلتها يا حيرام فقد قالت الهدهد لسليمان عندما اهدته جرادة " إنّ الهدايا على مقدار مهديها، ولو كان يهدي للإنسان قيمته، لأهديت لك الدّنيا وما فيها"!!

 

راحت عليهم نومة//

 ويبدو أنّ عمل حيرام أدّى الى الّا تقع عيون أولاد عمومتنا على قريتنا بعد النّكبة فأبقوها كما هي مع قرى أخرى في قضاء مدينة عكّا فلم يهجّروا أهلها ولم يصادروا ارضها، وطالما تساءلت: كيف بقيت هذه القرية ولم يهجّر أهلها في حين دمّر الجيش القرى المجاورة: الدّامون والرّويس وميعار ؟ بحثت عن الأسباب فلم أجد مثلا أنّ مختارها كان متعاونًا مع " الهجناه " أو أنّ أهلها كانوا اكثر وعيًا من اهل الدّامون وميعار أو أنّ القوّات اليهوديّة التي احتلّت الدّامون فميعار في 18 تموز نسيتهم أم حدث لهم ما جرى للصّبية المقدسيّة التي حضرت صباحًا الى شارع صلاح الدّين في القدس العربيّة (بعدما احتلّتها إسرائيل في العام 1967 وكبر الأسير الفلسطينيّ) كي تقابل أصحاب "دار نشر صلاح الدّين" وهم مجموعة شبّان مثقّفين وطنيّين من الجليل فوجدت مكتبهم مقفلا فاحتارت ماذا تفعل وكيف تتصل بهم فنصحها أحد جيران المكتب أن تعود في ساعات الظّهر بعد ان يستيقظوا من النّوم ويحضروا الى مكتبهم فعادت في السّاعة الواحدة ظهرًا فوجدت المكتب ما زال مقفلا فسألت الجار وهي محتارة فأجابها: ما زالوا نائمين يا أختي، عودي بعد ساعة او ساعتين! فقالت: الآن عرفت لماذا بقي عرب ال 48 في فلسطين، لقد راحت عليهم نومة!!

   فهل راحت نومة على أهل كابول؟

لا أظنّ كما لا اعتقد أنّ السّبب يعود الى ما زعمه باحث اكاديميّ عربيّ بأن المسؤولين الإسرائيليّين هجّروا ودمّروا القرى العربيّة التي تقع في القسم اليهوديّ من قرار التّقسيم في حين ابقوا القرى الواقعة في القسم العربيّ فقرى الدّامون والرّويس وميعار والبروة مثلها مثل طمرة وكابول وكوكب أبو الهيجاء وسخنين تقع في الدّولة العربيّة، كما لا اتّفق مع باحث آخر ادّعى أنّ القوّات اليهوديّة هجّرت ودمّرت القرى التي قاوم أهلها فلم تطلق رصاصة من الرّويس والدّامون وميعار في حين بقيت سخنين وشعب على الرّغم من المقاومة وتبادل اطلاق النّيران لعدّة اشهر بين شبّان سخنين المرابطين في موقع الجميجمة وبين موقع القوّات اليهوديّة المرابطة في جبل برّاد من أراضي ميعار المحتلّة .

   هذا السّؤال لغز عنيد أصعب من سؤال ابي الهول للعابرين في طريق المدينة .

   وبقيت قريتنا كابول يعيش أهلها كما كانت زمن الملك سليمان بلا كهرباء وبلا تلفون وبلا خدمة برقيّات، وبقيت أنا بدون عنوان خاصّ فعنواني هو عنوان ايّ كابوليّ أو ايّة كابوليّة لا اسم للشّارع ولا رقم للبيت ولا علامة ولا إشارة!

 

 

الحاجّ الضّائع//

    في خريف العام 1978 سمحت المملكة العربيّة السّعوديّة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة لعدّة آلاف من مسلمي هذه الأقليّة الباقية في الوطن بتأدية الرّكن الخامس من اركان الاسلام وهو حجّ البيت الحرام ولا ادري ماذا كتبوا في نصّ قرارهم واتّفاقهم. هل اسمونا الحجّاج المسلمين من دولة إسرائيل المزعومة كما كانوا يسمّون هذه الدّولة التي جاءت الينا. هكذا كانت تسمّيها إذاعة القاهرة وصوت العرب وإذاعة عمّان وإذاعة سوريّا، وبما أنّ الشّيء بالشّيء يذكر فإنّ مختار احدى قرى الجليل القى خطابًا بحضور وزير الدّاخليّة، وهو يهودي ابن عرب، في حفل تدشين ربط القرية بشبكة المياه القطريّة فقال فيما قاله: "شكرًا لوزير داخليّة دولة إسرائيل المزعومة"، فاحتجّ معالي الوزير اليهودي ابن العرب على وصف الدّولة بالمزعومة فاستغرب المختار وقال: على ماذا الاحتجاج يا صاحب المعالي؟ هل أنتم أقدر باللغة العربيّة من صوت العرب؟!

    وعلى ذمّة جريدة الشّيوعيّين أنّ ملك العربيّة السّعوديّة وملك الأردن ورئيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة عقدوا اجتماعًا طارئًا في جدّة في تلك الأيّام وبحثوا خطر انتشار الفكر اليساريّ الشّيوعيّ بين أبناء الجماهير العربيّة في إسرائيل وقرّروا فتح بوّابة الحجّ لهم وتشجيع انتشار الدّين الاسلاميّ الحنيف لمقاومة خطورة هذا الوباء .

    في خريف العام المذكور سافرت برًّا عن طريق الأردن مجموعة من اهل قريتنا الى الحجاز لتأدية الرّكن الخامس من اركان الإسلام. وكان هذا السّفر حدثًا هامًّا بعد انقطاع منذ العام 1947. ولما عاد الحجّاج، بعد حجّهم المبرور، وسعيهم المشكور، تبيّن أنّ حاجًّا مسنًّا من حجّاج قريتنا لم يعد مع العائدين. وانتشر الخبر كالنّار في الهشيم. أذاعته إذاعة إسرائيل بالعبريّة وبالعربيّة عدّة مرات، ونشرته الصّحف العبريّة على صفحاتها الأوائل وجاء الى قريتنا صحافيّون ومراسلون وعشّاق اخبار فوجدوا اهل قريتنا، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً قلقين حول مصير الحاجّ الذي لم يعد، وقابل مراسل الإذاعة العبريّة ابن الحاجّ المفقود فقال الشّابّ: لا اعرف ما جرى لأبي، ولكنّي اظنّ أنّه قدم الى المطار فسمع مناديًا ينادي: الى كابول.. الى كابول. فتقدّم الى الطّائرة المسافرة الى كابول عاصمة أفغانستان وصعد اليها.

    ونشر المراسل الخبر في المساء في الإذاعة بعنوان "من كابول في الجليل الى كابول في أفغانستان" وردّدته الصّحافة العبريّة وتناقله النّاس في المدن والقرى وصار الحاجّ الضّائع مشهورًا. ولم يسأل أحد من النّاس: هل يعقل أن ينادي المنادي المسافرين في المطار كأنّهم في محطة تاكسيّات النّاصرة؟ وهل في مكّة مطار؟ وهل يصعد الى الطّائرة من يشاء من المسافرين بدون تذكرة طيران وبدون جواز سفر وبدون فيزا؟ وما علاقة الحاجّ الكابوليّ بالسّفر في الطّائرة في حين سافر من قريته في الجليل الى الحجّ في حافلة؟ وعلى الرّغم من هذه التساؤلات الافتراضيّة فانّ النّاس صدّقوا سفر الحاجّ الكابوليّ الى افغانستان لأنّ القصّة فيها طرافة ودعابة وخيال شرقيّ ساذج. وتبيّن بعد اسابيع أن الحاجّ كان مصابًا بضربة شمس حجازيّة وكان يرقد في مستشفى مكّيّ فلما شفي سفّرته السّلطات السّعوديّة الى الاردنّ وسفّرته الأخيرة الى جسر اللنبي وعاد الى قريته واهله سالمًا. وربحت قريتنا شهرة واسعة في الوطن فهي قرية الحاجّ الضّائع. وفي سهرة في عمّان، عاصمة الأردنّ، مع عدد من الأدباء والفنّانين سألني احدهم: من أيّة بلدة انت من بلدات الوطن؟ فابتسمت وأجبته: من بلدة الحاجّ الضّائع، فضحك المحفل وقال أحدهم: ذلك الذي طار الى كابول في افغانستان!

وحدث لي ايضًا، في مرّات عديدة، وفي دول عديدة، عربيّة واجنبيّة ما أن أقول "أنا من كابول" ردًّا على سؤال مستفهم عربيّ عن أصلي حتى يبتسم السّائل وهو يحدّق بي ويقول: من بلدة الحاجّ الضّائع. هو عنوان طريف لن ينساه صديق أو رجل ساخر!

 

صرتُ مواطنًا أفغانيًّا//

    وحدث أنّني كنت اقود سيّارتي الصّغيرة ذات صباح متّجهًا الى مدينة عكا لأتناول صحن حمّص من أحد مطاعمها، وجميع مطاعم عكّا تقدّم للطّاعم حمّصًا جيّدًا وشهيًّا، وفيما أنا سائر واستمع الى الفنّانة فيروز تغنّي "زهرة المدائن" رنّ هاتفي الجوّال، ولم تكن يومئذ رقابة شرطيّة على استعمال الجوّال في اثناء القيادة، واذا بصوت انثويّ ناعم يسألني: هل اتحدّث مع شاؤول؟ فأجبتها بأدب: الرّقم خطأ يا سيّدتي، وأقفلت الجهاز، وما كادت تمرّ ثلاث دقائق واذا الجوّال يرنّ ثانية فتناولته واذا بالصّوت نفسه: هل اتحدّث مع شاؤول؟ فأجبتها بصوت فيه تذمّر: الرّقم خطأ يا سيّدة. واستعذت بالله من الشّيطان الرّجيم ولولا أنّها سيّدة وصوتها ناعم جميل لأقفلت الخطّ بفظاظة ولم أجبها ولكنّ الهاتف رنّ مرّة أخرى بعد لحظات واذا بالصّوت نفسه وبالسّؤال ايّاه فقلت: أنت تتحدّثين مع كابول يا سيّدة، فصرخت: كابول؟! فقلت: نعم. كابول، طالبان، قندهار، تورو بورو، أفغانستان. فصرخت السّيّدة مستغيثة: أوي فأفوي. أي. ويلاه؟!

وأمّا أنا فضحكت وانا أهمس في سرّي: والله صرتُ أفغانيًّا. نعم صرت افغانيًّا ذا لحية بيضاء طويلة وعمامة ودشداشة ومحتذيًا صندلًا بسيطًا مثل احذية اهل الجليل في زمن سيّدنا نوح وأحمل على كتفي بندقيّة عصريّة وأسير في الوديان في الجبال الشّاهقة وأقاتل الرّوس الكفّار الذين احتلّوا أفغانستان ليبيعوا شعبها الفكر البلشفيّ والمطرقة والمنجل واللون الأحمر القرمزيّ فعلقوا علقة ساخنة ولم يعرفوا من أين يأتيهم الموت فصاروا مثل مالك الحزين حينما سأله ابن اوى: ماذا تفعل إذا هبّت الرّيح من الغرب؟ فحدّد مالك الحزين أين يخفي رأسه، فعاد وسأله: وماذا تفعل اذا هبّت من الشّرق؟ ومن الجنوب؟ ومن الشّمال؟ ومن كلّ الجهات؟ فدفن رأسه فانقضّ ابن اوى عليه وافترسه.

    وولّى الرّوس يحملون هزيمتهم وجاء الأمريكان بكبريائهم وعلومهم واختراعاتهم ودخلوا بحيرة الماء الآسن فصرت أصرخ: "الله اكبر. الله اكبر" واقطع رؤوسهم بسيفي البتّار. أنا فارس من طالبان الذين دوّخوا الرّوس فالأمريكان.

    أرسل لي الشّاعر الإسرائيلي المقدسيّ دافيد عصمون بالبريد المسجّل مجموعته الشّعريّة "معوراف يروشلامي" مرفقًا بها رسالة مؤرّخة ب 10/10/1990 أي فيها ثلاثة أصفار، وهذا فأل حسن، ولكنّ موظّف البريد الاسرائيليّ اختار بذكاء نادر أن يرسل الطّرد الى كابول عاصمة أفغانستان ولا سيما أن "دافيد" كتب اسمي واسم قريتي بحروف اللغة الانجليزيّة ظنًّا منه أن موزّع البريد في قريتي لا يعرف العبريّة وظنًّا منه أيضًا أنّ الرّسالة سوف تصل بسرعة وبخاصّة أن شعار دائرة البريد في إسرائيل هو الغزال وأنّ شاعرنا الشّابّ يعشق الغزلان.

 

الطّرد الغريب//

    اضطرب الشّابّ جمال الدّين الأفغانيّ وهو يفحص الطّرود في غرفته التي خصّصها له الجهاز منذ ثلاث سنوات لمراقبة بريد العاصمة مراقبة دقيقة.

    مسح جمال الدّين لحيته السّوداء وتحسّس شفته العليا حليقة الشّاربين كما تنصّ السّنّة النّبويّة عندما وقع نظره على الطّرد العجيب ذي العنوان الغريب واسم المرسل الذي يستدعي الشّكوك فقرّر أن ينقل الطّرد الى رجل الأمن الكبير الشّيخ الرّائد مسعود ليتعامل معه.

حدّق الرّائد مسعود بالطّرد الذي أمامه باحثًا عن سرّ هذا اللغز الذي وصفه جمال الدّين قائلًا: "طرد غير عاديّ يا سيدي الشّيخ. طرد مشبوه"!!

    اعتاد الرّائد مسعود التّحقيق في طرود عديدة وصلت من بلدان الكافرين، أعداء الله واعداء الدّين، كما اعتاد على فحص أوراق وشهادات وملابس المتّهمين. وحقّق إنجازات عديدة في عمله الأمنيّ مما دعا المسؤولين عنه الى منحه شهادة تقدير وضعها في برواز زجاجيّ وعلّقها على جدار الغرفة فوق رأسه ليراها كل من يدخل اليها!!

    للرّائد مسعود هيبة، ووصلت سمعته الشّديدة القاسية الى احياء عديدة في العاصمة فهو مخلص وفيّ للنّظام يعمل بالآية الكريمة "أطيعوا الله والرّسول واولي الأمر منكم" ويسعى بنشاط كي يُرضي اولي الأمر فيترقّى في عمله. وعرف الموظّف الشّابّ جمال الدّين بذكائه الفطريّ هموم الرّائد مسعود كما شمّ نقطة ضعفه فصار يحضر له ملابس النّساء المتّهمات او ملابس الرّجال المتّهمين كي يتحسسها بأنامله الغليظة وبخاصة الملابس الداخليّة، وقد ضبطه ذات مرّة وهو يشمّ بأنفه الّضخم الملابس الدّاخليّة لمتّهمة شابّة. وكسب جمال الدّين رضا الرّائد مسعود بما قدّمه له من مستمسكات عن المتّهمين وعن زوجاتهم وعن بناتهم.

    للطّرد لون قشرة الجوز وأمّا الطّوابع فغريبة لم يعهدها من قبل. والطّرد ليس كبيرًا وليس ثقيلًا بل يكاد يكون رسالة كبيرة من شخص ثرثار.

    تحسّس الرّائد مسعود الطّرد للمرّة العاشرة وشمّه بأنفه الكبير للمرّة الخامسة. وتأكّد الا وجود لمواد متفجّرة. لا مساحيق ولا موادّ صلبة.

قرأ الرّائد مسعود سورة الإخلاص فالمعوذتين ثلاث مرّات ثمّ استعاذ بآية الكرسيّ ودعا الله أن يحميه ويحفظه من شرور أبناء وبنات الغرب الكافرين الملحدين العراة السّكارى أبناء وبنات الزّنى وآكلي لحم الخنزير الذي جعلهم لا يغارون على أعراض نسائهم ولا على شرف العائلة فالخنزير لا يغار على انثاه لأنّه فاقد للشّرف وكلّ من يتناول لحمه الدّنس يفقد قيمة الشّرف!!

    بحث الرّائد مسعود في سجلّاته القديمة والحديثة مستعينًا بحاسوبه العصريّ الغربيّ عن اسم الشّخص المسجّل على الغلاف فوجد مئات الآلاف يحملون اسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم كما وجد عشرات الآلاف يحملون اسم الامام عليّ كرّم الله وجهه ووجد آلافًا يحملون اسم طه ولكنّه لم يجد من يحمل هذا الاسم الثّلاثيّ سوى خمسة أشخاص، ثلاثة منهم فارقوا الحياة في غارات الرّوس وأمّا الاثنان الآخران فواحد منهم فلّاح عجوز لا في العير ولا في النّفير ولا يميّز حرف الطّاء عن ثمرة الباذنجان السّوداء وأمّا الثّاني فهو مدرّس متقاعد ولا بد من استدعائه، فأمر جمال الدّين أن يلقي القبض عليه ويحضره على جناح السّرعة!!

    وفيما هو ينتظر حضوره فكّر أنّ هذا الاسم لا يدلّ على مذهب حامله فقد يكون سنيًّا شافعيًّا او حنبليًّا او مالكيًّا او حنفيًّا وقد يكون شيعيًّا وقد يكون من احدى الفرق المتعبة وهنا المعضلة. هنا يصعب الاهتداء على هذا العميل. وتوعّد أن يكسر عظامه وعظام والديه وجدّيه حينما يقع بين يديه. ما معنى أن يتراسل هذا الشّخص مع صهيونيّ غربيّ عميل لأمريكا الملحدة؟ ما معنى أن يصل اليه طرد من جيروزاليم؟ وردّد كلمة جيروزاليم مرّتين او ثلاث مرّات ثمّ همس كأنّ احدًا يراقب أنفاسه: من الكيان الصّهيونيّ؟ من القدس المغتصبة؟ هنا تكمن الخطورة. من صديقة أمريكا. ربيبة الاستعمار الغربيّ الكافر!!؟

    وضرب بقبضته على الطّاولة السّوداء التي امامه. لا بدّ من القضاء على عملاء أمريكا وعملاء الاستعمار الذين يخدمون الكفّار الملحدين أعداء الله واعداء الدّين الاسلاميّ. علينا أن نطهّر البلاد منهم، من الدّنس الغربيّ. علينا أن نعتقل كلّ افغانيّ له علاقة بالغرب وكلّ من يستمع الى إذاعة أمريكا. ويبدو أنّ هذا الصّهيونيّ الذي أرسل الطّرد واثق بنفسه فيكتب اسمه واسم عائلته وأنّه من جيروزاليم. ما شاء الله. ولا يكتب، من باب الحذر، اسم الشّارع الذي يقع فيه بيته ولا رقم البيت بل يكتب رقم المنطقة البريديّة ورقم صندوق بريده. وهذا دليل على أنّه يعمل في الجهاز.

    عاد جمال يرافقه المدرّس المتقاعد الذي بدا عليه التّعب ويبدو اكبر من سنّه الحقيقيّ بسبب لحيته البيضاء الطّويلة التي خضّبها الاصفرار وبسبب ظهره المحنيّ.

كشّر الرّائد مسعود تكشيرة مخيفة تزرع الرّعب في ساقي الرّجل وسأله بنبرة غاضبة: ما اسمك؟

 - محمود.

فصفعه على وجهه وهو يرغي ويزبد ووبّخه: تغيّر اسمك من محمّد الى محمود يا عكروت؟

قسما بالله، اسمي محمود يا سيّدي الشّيخ.

عاد الرّائد مسعود وصفع المدرّس العجوز وهو يقول: وتقسم بالله يا كذّاب. قلنا أنّ اسمك محمّد.

- نعم. نعم يا سيدي الشّيخ.

- ووالدك اسمه عليّ..

- كما تشاء سيّدي الشّيخ.

- وجدّك؟

- جدّي أنا.

- نعم. جدّك يا جاهل.

- كما تشاء

- جدّك يا حمار.

- جدّي اسمه إبراهيم.

- وما علاقتك بدافيد؟

- داهود؟

- ايوه. ديفيد؟

- داهود كان زميلًا لي في العمل وكنّا نناديه "أبو سليمان".

- ويسكن في القدس؟

- أي قدس يا سيّدي الشّيخ. كان يسكن في قرية بجوار العاصمة، قرية بدون شارع معبّد.

- بدأت تطعن بالنّظام يا عكروت!!

- لا يا سيّدي الشّيخ. النّظام على رأسي!!

- طيّب. والآن أين داود؟

- رحمه الله. مات في غارة أمريكيّة.

- اختفى ويعيش في القدس.

- نحن لا نؤمن بتناسخ الأرواح!!

- تتواقح يا عميل؟

- أبدًا سيّدي الشّيخ. كلّ الاحترام والتّبجيل لك وللدّولة. عاشت الدّولة. عاش الشّيخ الرّئيس. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!!

- يا جمال الدّين. تعال. خذوه. هذا العجوز المعتوه لا يفيدنا!!

    جرّ الشّابّ جمال الدّين الرّجل العجوز وخرجا من غرفة الشّيخ مسعود بينما بقي الرّائد الشّيخ وحده غاضبًا قلقًا حائرًا!!

    وكان الأمر المثير للدّهشة والعجب العجاب عندما فتح الرّائد الطّرد بحذر كبير فيما رأسه تحت الطّاولة، ووجد كتابًا صغيرًا مكتوبًا بحروف غريبة إلّا أنّها تسير من اليمين الى اليسار مثل اللغة الافغانيّة واللغة العربيّة وليس مثل كتابة لغة الكفّار!!

    حروف هذه اللغة تشبه حروف اللغات القديمة؟!

بحث الشّيخ مسعود عن الدّيناميت بين حروف الكلمات وعن المخدّرات فلم يجد شيئًا. ولكنّ المرسل اسمه دافيد. وهذا يشير إلى أنّه نصرانيّ أو يهوديّ. هذا اسم رجل غربيّ. اسم رجل من الكفّار. اسم لعدوّ. ولا بدّ أنّ له أصدقاء او أقارب او عملاء في عاصمة الدّولة الاسلاميّة.

لا بدّ من اعتقال كلّ شخص اسمه دافيد أو ديفيد او داود او داهود او سليمان او موسى او يعقوب. يا جمال الدّين. هل سمعت الأوامر؟

إذا كان هذا المرسل اسمًا حقيقيًّا وليس تمويهًا فهو يهوديّ صهيونيّ غربيّ عميل لأمريكا وللاستعمار ومن الطّبيعيّ أنّ له علاقة مع المرسل اليه. وهذا الكلام الغريب شيفرة. كلام     سرّيّ. وأمّا المرسل اليه فمن الواضح أنّه عربيّ. يجب التّحقيق مع كلّ عربيّ في العاصمة يحمل اسم محمّد أو عليّ أو كلّ اسم حُمِّد أو عُبّد!!

    وضغط على الجهاز الذي امامه على الطّاولة السّوداء فدخل ثلاثة جنود شبّان فأمرهم أن يبحثوا عن كلّ عربيّ يحمل اسمًا مشابهًا حتّى لو كان موظّفًا في سفارة دولة اسلاميّة.

    انتقل المرسوم من غرفة الى غرفة ومن خبير الى خبير ومن ضابط الى شرطيّ عاديّ ومن شرطة الحدود الى شرطة الجنايات ومن مؤسّسة المخابرات المحلّيّة الى دائرة المخابرات الاجنبيّة ومن مكتب محاربة المخدّرات الى مكتب تهريب الأسلحة.

    وانشغلت العاصمة الأفغانيّة من أقصاها إلى أقصاها!!

وبعد عدّة أيّام وبعد لأي شديد وبدون نتائج مرضية قرّر الرّائد الشّيخ مسعود أن يستدعي استاذًا جامعيًّا من جامعة كابول خبيرًا باللغات السّاميّة.

    بحث رجال المخابرات في جامعة كابول في أسماء الأساتذة والمساعدين فوجدوا اسم الأستاذ خالد بن حسين مدرّس اللغة العبريّة واللغة الآراميّة فأسرعوا الى الحرم الجامعيّ واعتقلوا المدرّس واحضروه الى مكتب الشّيخ مسعود وهو يرتجف هلعًا!

تناول الأستاذ خالد بن حسين الكتاب ذا الحروف الغريبة من على طاولة الشّيخ وهو يرتجف.. وتصفحّه وابتسم وقال: "والشّعراء يتّبعهم الغاوون". صدق الله العظيم.

وكان الشّيخ مسعود ينظر اليه دهشًا!

وباشر الأستاذ خالد بالقراءة. ولا أحد يفهم ما يقرأه. وبعد ان قرأ عدّة صفحات والشّيخ مسعود على احرّ من الجمر قال: رحم الله جلال الدّين الرّوميّ الذي لم يترك رغيفًا لشاعر بعده. لا خطر يا سيدي الشّيخ في هذا الكتيّب!!

    وعندما اطمأنّت الأجهزة العلنيّة والأجهزة السّريّة في العاصمة الاسلاميّة - كتب احد الخبراء على مغلّف الطّرد: "أدرِس ما مكمل .. أدرِس مجهول!!" وأمر الرّائد الشّيخ مسعود بإعادة الطّرد إلى مرسله الصّهيونيّ الغربيّ في مدينة القدس.

    وأكاد أتخيّل الشّاعر دافيد عصمون ينظر برهبة ودهشة الى الطّرد البريديّ الذي وقع بين يديّ قادة طالبان ثم عاد اليه بعد شهرين تقريبًا فارتأى أن يرسل المجموعة الشّعريّة هذه المرّة بتاريخ 1/1/1991 مع الغلاف الأوّل والرّدّ الأفغاني بالحروف العربيّة وأن يكتب لي رسالة جديدة: ها أنا أرسل إليك الكتاب مع المغلّف الأوّل العائد من أفغانستان كما هو وأرجو أن يصل إليك الكتاب هذه المرّة. وأنا على يقين أنّك ستبدع قصّة هامّة من هذا الحدث.

    وهذه هي القصّة يا أيّها الشّاعر، ولا أدري مدى أهميّتها!

 

صار لي عنوان//

    وفيما أنا أقود سيّارتي الصّغيرة وأستمع إلى أغنية ناعمة رأيت لافتة بارزة على الدّوار الأوّل في شارع قريتي. أقول، وأنا مبتسم، الدّوّار الأوّل تقليدًا لأهلنا في عمّان الذين يقولون ويحدّدون الأماكن في عاصمتهم الجميلة بالدّوار الخامس أو بالدّوّار السّادس وهكذا. ومكتوب على اللافتة بخطّ واضح باللغتين العربيّة فالعبريّة "شارع القدس". الشّارع الرّئيسيّ في قريتي يحمل اسمًا جميلًا. وهل هناك مدينة في الدّنيا أجمل من مدينة القدس؟

درْتُ في السّيّارة مرّتين حول الدّوّار بتأنٍّ وتمهّل ولولا أنّ سيّارة حمراء قدمت من الغرب باتّجاه القرية لدرت المرّة الثّالثة ولكنّني خفت أن يغضب السّائق منّي، وقد يكون شابًّا حمسًا حمشًا لا يعرفني ولا يحترم شيخوختي، والمثل العربيّ يقول بصراحة: ابعد عن الشّرّ وغنِّ له! وهذا المثل انهزاميّ وكيف يمكن أن أغنّي للشّرّ؟ ما هربت يومًا من واقع أو من معركة. ولكنّ عددًا لا بأس به من شبّان هذه الأيّام يتصرّفون بعنف، وكثيرًا ما حدثت جرائم قتل بسبب حق المرور في الشّارع أو بسبب موقف لسيّارة ومنذ سنوات عندما اقود سيّارتي في قريتي أو في أي بلدة أو مدينة عربيّة في وطننا الصّغير وأجد سائقين اثنين قد أغلقا الشّارع بسيّارتيهما وهما يتبادلان الحديث غير عابئين بالسّائقين الآخرين أقف بدون ملاحظة وبدون استعمال الزّامور لتنبيههما كي لا أزعجهما حتّى يتمما كلامهما واسأل الله السّلامة.

    يبدو أنّ السّائق، وهو شابّ، لم يهتمّ باللافتة ولا بأنّ الشّارع يحمل اسمًا جميلا، لعلّه مهموم، ولعلّه عاشق، ولعلّ رصيده في البنك يقلقه.. ولعلّ دائرة الضّرائب تلاحقه. وقدت سيّارتي على مهلي. وأنا اتخيّل أحدًا من اجدادنا لعلّه اسعاف النّشاشيبيّ أو روحي الخالديّ أو عبد القادر الحسيني. يقف وسط الدّوّار الأوّل ويقول: اهلا وسهلا بكم في القدس. أقول: شكرًا للجنة الأسماء في المجلس المحلّيّ التي اختارت اسم القدس للشّارع الرّئيسيّ للقرية!!

اظنّ، وأرغب بأن أحسن ظنّي وأقول: "أعتقد" بدلًا من "أظنّ"، أن هذا الاختيار النّاجح والثّاقب ما جاء من باب الصّدفة. لعلّه جاء من دافع دينيّ فالقدس مدينة الأنبياء منذ سيدنا آدم كما تقول الأسطورة ومنها ايضًا كان معراج الرّسول العربيّ الى سدرة المنتهى، وفي القدس حائط البراق والصّخرة الشّريفة وفيها كنيسة القيامة والقبر المقدّس. ولعلّ الاختيار نبع من دافع قوميّ: فالقدس عاصمة فلسطين ومهد الحضارة العربيّة. والقدس حاضنة الفكر القوميّ العربيّ الفلسطينيّ. وسيّارتي تتهادى في الشّارع، في شارع القدس، والسّيّارات تجتازني مسرعة والسّائقون، شبّانًا وصبايا ينظرون إليّ شزرًا ويتمتمون، ولا يهمّني ما يقولون فأنا في شارع القدس وفي الدّوّار الثّاني يتفرّع منه شارع ابن رشد. هذا العالم الكبير الذي يحترمه مثقفو العالم في الشّرق والغرب. ولكن لماذا اختارت اللجنة المحترمة اسم ابن رشد ولم تختر اسمًا له علاقة بالقدس الشّريف؟ مثلا صلاح الدّين الأيوبّيّ أو عبد القادر الحسينيّ أو فيصل الحسينيّ؟ هذا الأمر يحتاج إلى شجاعة وإلى تحدّ. ولماذا اطلب منهم ما فوق طاقتهم في زمن حكومة الوزير أبي رغيف الذي أصدر فرمانًا يمنع الأسرى الفلسطينيّين من خبز أرغفتهم البلديّة عقابًا لهم على نضالهم. يا له من وزير غبيّ وعنصريّ. لو كنت في اللجنة لاخترت اسم صفرونيوس البطريرك الذي استقبل الخليفة عمر بن الخطّاب يوم فتح المدينة. ولن يعارض مسؤول حكوميّ على ذلك كما أظنّ. من يقول؟ هناك أغبياء في كلّ مكان. وهناك عنصريّون وهناك أبو رغيف وأبو صابون وأبو فجلة وأبو خ.. معاذ الله. وسيّارتي تتهادى، تسير على بيض وأنا فرح. وأصل الى دوّار آخر. ومفرق يحمل اسم "شارع الشّافعيّ". الامام الشّافعيّ. الامام والعالم الفلسطينيّ الكبير. ابن غزّة هاشم. مؤلّف مئات الكتب. شاعر وأديب. ومرّة أخرى اشاهد لافتة ناصعة تحمل اسم شارع القدس باللغتين، وبالعربيّة أوّلا. يا زهرة المدائن، يا عروس المدن التي تشدّ اليك الرّحال. ما هذا يا ربّ؟ من هنا يتفرّع شارع خليل السّكاكينيّ؟ مرحبًا أبا سريّ. كبيرا كنت "كذا أنا يا دنيا" وكبيرًا بقيت، وتقول بتواضعك الانسانيّ "انسان ان شاء الله" يا لك من مربٍّ عظيم، وانسان كبير. ما أصعب أن يكون المرء انسانًا في هذه الأيّام يا معلّم خليل!!

    وفي ذروة هذه الأفكار انتبهت الى أن البيوت تحمل أرقامًا. فوضعت يدي على صدري. أيّ رقم يحمل بيتي؟ هذه الأرقام هامّة. وجدت المنازل الواقعة في الجهة الشّماليّة لشارع القدس تحمل ارقامًا فرديّة وأمّا المنازل الواقعة في الجهة الجنوبيّة فتحمل أرقامًا زوجيّة.. وبيتي شماليّ. بيتي يساريّ. وهذا يؤكّد لي أنّه لن يحمل الرّقم 48 الذي يذكّرني بطفولتي المسروقة. الحمد لله. ولكن..ها.. ماذا لو بالصّدفة حمل بيتي رقم 67؟ رقم اغتيال الفرح من شبابي. يا ريّس! يا لجنة! عندكم ما شاء الله تعالى من الأرقام الفرديّة فأرجو أن ترحموني. ما طلبت في يوم ما أمرًا أو شيئًا من مجلسكم المحترم. ارجوكم. أتوسّل اليكم ابعدوني عن الرّقم المشؤوم. وفكّرت أن اوقف سيارتي جانبًا.. أنا قلق. قلق. يا ربّ سهّل امري. وأصل الى ساحة بيتي وأشاهد على جدار البيت "شارع القدس 77" الحمد لله. 77. رقم السّعد. سبعتان. الحمد لله صار لي عنوان. وليس "أدرِس ما مكمل" بل "أدرِس مكمل" يا طالبان، ويا أبا رغيف.

باق هنا. باق في وطني الصّغير الجميل. باقٍ!!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب