news-details

عشرون عامًا على رحيل الفنان بطرس لوسيا

 

 

اللقاء الأول

مر قرابة خمسين عامًا على أول لقاء لي به، كنتُ يومها أخط أول لمسات فرشاتي على ورق مقوى، بألوان لا أذكر كيف كنت أحصل عليها، كانت الرسومات التي حملتها معي تتشابك فيها مواضيع شتى، لا يربط بينها أي رابط أو أسلوب محدد، منها لوحة حملت عنوان "فقراء لكن نريد السلام"، هي خليط من الأشباح والرموز والتشبيهات المتداخلة بأسلوب بسيط وعفوي. ذهبت إليه برفقة قريب لي، استقبلنا طيب الذكر أبو جريس ببساطتهِ وعفويتهِ وابتسامتهِ الرقيقة، دخلنا بيته البسيط المتواضع المعتق بعبق الزمن والتاريخ، من باحة أمامه تدخلها من زقاق ضيق يفصل بين بيته وكنيسة البروتستانت، والتي كان راعيها الأشم قدس القسيس طيب الذكر شحادة شحادة، في حين أن الباحة مرتفعة عن الطريق بدرجة أو درجتين، ومغلقة من الشمال بجدار وأبنية أعلى منها، ومن الغرب لها مخرج غير متماسك الأقطاب، تمر من الباحة عبر عتبة باتجاه الشرق إلى غرفة متوسطة المساحة، لها شباك خشبي واحد من الجهة الجنوبية، وعلى حائطه اتكأت كنبة مرتبة بغطاء وردي مزركش مدعمة بمساند ظهر أنيقة، وفي زاوية الملتقى بين الحائط الجنوبي والشرقي، عُلقت لوحة "النبي إيليا" وهو صاعد إلى السماء بمركبته النارية، والحائط الشرقي تزينه بضع لوحات بأحجام مختلفة، يلتصق به سرير بمساند لراحة من يجلس عليه. في الناحية الشمالية من الغرفة باب يفضي إلى ما تبقى من البيت، عُلِّق في وسطه أكثر من لوحة، أذكر منها لوحة بحجم كبير، يتوسطها غلام راعٍ يلبس ثوبًا مصنوعًا من جلد الخراف، وإلى جانبه الأيمن شَلّعة من الخراف متجهين إلى الأمام، تحيط بهم أشجار وورود ونباتات مختلفة، وسماء ربيعية مضيئة ببهجة الحياة. أما تحت اللوحات المعلقة بثبات، فكان يربض دولابًا وضِعَت عليه عدة تماثيل جصية وخشبية، منها تمثال ملون للموسيقار محمد عبد الوهاب. لست أدري كيف ما زلت أذكر تلك الزيارة بأهم تفاصيلها، رغم أني لم أدخل البيت إلا مرة واحدة يومها، لأني بعدما أصبحت أتنقل بواسطة الكرسي الطبي صار من المتعذر عليّ دخوله. لقد استقبلنا أبو جريس بترحاب لطيف، وأخذ يُقلب الرسومات التي أحضرتها ويتأملها على مهل، ثم قال لي بما معناه: "اتركك من هذه المواضيع، وتعلم أن ترسم الأشياء المحيطة بك، أشياء من البيت، ارسم بصلة، مزهرية، باقة ورد، وعندما تتقنها تمامًا تحوّل إلى المواضيع التي تحب.. عليك يا بُني أن تتمكن من إتقان الشكل المرسوم حتى يُعبر عن ذاته".

 

من هنا

ولد طيب الذكر بطرس لوسيا أبو جريس سنة 1914م، وقد توفى والده وهو في عمر الطفولة، حيث كان وحيدًا بين أخواته البنات، وقد اضطرت والدته إلى الانتقال بالعائلة إلى حيفا، للعمل كمدبرة منزل في بيوت الآخرين لإعالة أسرتها، في حين كان ابنها يكاد يناهز العاشرة من عمره. وفي أحد الأيام، قامت أخته الكبرى باصطحابه معها إلى بيت القنصل الفرنسي في حيفا، حيث كانت تعمل هناك كمدبرة منزل، أخذ الصبي يتجول في أرجاء البيت المتعدد الغرف والباحات، إلى أن وقف أمام لوحة كبيرة معلقة على جدار إحدى الباحات، فما كان منه إلا أن افترش المسطبة وأخذ يرسمها على رقعة ورق بسيطة، وما أن بدأت تظهر ملامحها حتى فوجئ بالقنصل يقف خلفه، تناول القنصل رسمة الصبي وتأملها مليًا فأعجبته، فأخبره حينها أن هذه اللوحة تعود للثائرة الفرنسية "جان دارك"، ومن ثم قام القنصل بإهداء الفتى طقم ثياب بحري مع طاقية وعكاز، هو نفس الزي الرسمي الذي كان يرتديه البحارة الفرنسيين آنذاك، بل وأكثر من ذلك، فقد أرسل عامله ليشتري له مجموعة من ألوان ومواد الرسم وقدمها هدية للصبي، وقد قال لي أبو جريس يوم التقيته، أنها كانت أجمل هدية حصل عليها في حياته.

وقبل أن يبلغ الصبي سن الخامسة عشرة من عمره، أي في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم، التحق بالعمل في ورشة دهان الحديد التابعة للفنان اللبناني عوض الرومي، والتي كان موقعها عند تقاطع شارع مار يوحنا وشارع آلِنْبي في حيفا. وقد كان الرسام الفتيّ يجلس في أوقات فراغه من العمل على الرصيف المحاذي لمدخل الورشة، ويبدأ برسم ما يشاهد أمامه، من رواد المقاهي وعابري السبيل، فانتبه لموهبته الفنان عوض الرومي، فأخذه إلى مرسمه المتواضع القابع بمحاذاة الورشة، والذي كان يُنْجز فيه أعماله الفنية، من كتابة يافطات أو رسومات وزخارف مختلفة، وأيقونات خاصة لحواري المسيح والقديسين، والموجود منها رسومات في كنيسة شفاعمرو وفسوطة ودير مار الياس في ستيلا مارس. قد شاهد أبو جريس في حينهِ بأم عينه، لوحة بالحجم الطبيعي لطيب الذكر المطران جريجيريوس حجار، كان يرسمها عوض الرومي بطلب من المطران نفسه، ومنذ تلك اللحظة، أخذ "المعلم" يشجع الرسام الفتى على المضي في طريق الفن والإبداع. بعدها التحق أبو جريس بدورة للرسم في ندوة قام على إدارتها بعض القادمين الجدد من اليهود، وكان حينها يعمل في ورشة للنجارة تابعة للجالية الألمانية، والتي ساهمت أيضًا في تشجيعه على المضيّ في بلورة موهبته وصقلها. بيد أن الحال لم يدُم على ما هو عليه، إذ بدأت العصابات الصهيونية تهدد أهالي حيفا الأصليين، باعتداءات متكررة على الناس بمؤازرة الجيش البريطاني المستعمر، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية فيها، فقررت السيدة أم بطرس، من خوفها على أسرتها، العودة إلى بلدها الأصلي شفاعمرو.

 

بطرس لوسيا 2

      اسم بطرس معناه الصخرة

وقد جاء عنه في المصادر: منها "اللغة الإنجليزية: Peter - اللغة العبرية: פטרוס - اللغة اليونانية: Πέτρος - اللغة القبطية: Petroc - اللغة الأمهرية: ጴጥሮስ (بيتروس) - اللغة السريانية: ܫܡܥܘܢ ܟܐܦܐ شمعون كافا (منقول). وقد كان الراحل أبو جريس صامدا كالصخر الجلمود في مسيرته الفنية العابقة بشغف المحبة والجمال.

      أما معنى الاسم lusia لوسيا

فقد زودني به الاستاذ الياس خليل نصر الله، الباحث في أصول الكلمات ومعانيها.

ويقول: اشتق هذا الاسم من الكلمة اللاتينية "lūx lūcis lucere (lūcĕo) lūcĭus"، والتي تعني "الضوء، اللمعان، الصافي، الساطع، المليء بالضوء"، والذي بدوره مشتق من Proto-Itali " louks"، بمعنى "أبيض، فاتح، ساطع"، مقارنة باليونانية القديمة "leukós (λευκός)".

 

      تجدد اللقاء

تجددت علاقتي بالراحل العريق في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وقد أطلقتُ عليه لقب شيخ الفنانين والمبدعين في شفاعمرو والجليل، استحقاقًا وليس كرمًا، وذلك في مقالة مطولة نشرت في صحيفة "الاتحاد" في شهر آذار عام 2000م، وفي كتابي الذي صدر عن مؤسسة الأمة العربية للنشر والتوزيع في القاهرة، والذي حمل عنوان "نثرات تشكيل فلسطينية – الكتاب الأول"، الطبعة الأولى 2017. وقد رسمت له صورتهُ الشخصية من خلال تكرار جملة "بطرس لوسيا شيخ الفنانين والمبدعين في شفاعمرو"، وأهديته نسخة منها إبان مشاركته في أحد المعارض التي نظمتها آنذاك، كما ونُشر مقتطفًا مما كتبتهُ عنه على موقع "مؤسسة فلسطين للثقافة" تحت عنوان "بانوراما الفن التشكيلي الفلسطيني (19) الفنان بطرس لوسيا"، وهذا عنوان الموقع على الشبكة:

https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=521#.YDa5tWhvaUk

      حين تلتقي بإنسان مخلوق بالطيبة والتواضع والإنسانية الرائعة، تبقى ذكراه مُختزنة في ذهنك في مكان عصيٌ على النسيان، وهكذا هي ذكرياتي مع هذا الفنان المفعم بمواهب جمة رائعة، فهو يُطوّع كل ما تصل إليه يديه إلى عمل فني أخَّاذٍ وخلاب. ففي تلك الباحة التي كانت مشغله الذي يقضي فيه جُلّ ساعات يومه، اجترح أبو جريس عدة ماكنات وآليات من صنعه الخاص، فهناك دولاب لخراطة الخشب، وأدوات شبه بدائية للحفر والنحت، ورفوف تكدست عليها أنواع من الفراشي والألوان، ومَسنَد للرسم من صنعه، وبجانبه طاولة صغيرة مرتفعة الأرجل، توازي ارتفاع قاعدة اللوحة على المسند، لتُسهل عليه التعامل مع أدوات الرسم.

هنا في هذا المكان الذي كان الضوء يتسرب إليه بصعوبة، أبدع أبو جريس في الكثير من الأعمال الفنية الرائعة، من رسومات دينية ومناظر طبيعية ولوحات لطبيعة صامتة. وحين كان يُطلب منه رسم لوحة دينية، كتذكار من عائلة رحل عميدها لتقديمها كهدية إلى الكنيسة، كان يبدأ بنقل اللوحة بقلم الرصاص على لوح من "المازونيت - Masonite" (خشب بسُمْك خمس مليمترات مصفح بطبقة عازلة ضد الرطوبة)، يُلصِق عليها قطعة القماش "الكانفس - Canvas" بمادة "البوليؤر"، وبعدها يضيف إليها من ذاته "موتيفات" وأشكال من وحي الطبيعة المتماهية مع موضوع الرسم الأصلي، ومن ثُمّ يبدأ بتلوينها بالألوان الزيتية المصنوعة من النوع الفاخر "تالينس Thalens". كانت فرشاته تداعب الألوان برقة وانسجام دافينشي، لتنتقل من لون لآخر، فتتداخل ببعضها حتى لا يكاد المرء يلحظ الخط الفاصل ما بين لون وآخر، في غياب متعمد للون الأسود بمشتقاته الغامقة، حتى لتبدو اللوحة منسجمة متجانسة بألوانها مضيئة بمنظورها الشامل، وعابقة بالحياة كلحظة أبدية لا تنتهي. هناك العشرات من اللوحات والرسومات الكنسية من أعماله، باقية تزين جدران الكنائس في شفاعمرو وفي أماكن أخرى.

وقد أبدع عدة منحوتات جصية وخشبية لأشخاص من التاريخ، ولشخوص دينية مسيحية حول مذود الطفل يسوع وأمه العذراء، وأشخاص المجوس حاملي الهدايا بثيابهم التقليدية، كما كانوا يظهرون في الرسومات التاريخية، جاءت كلها لتزين شجرة عيد الميلاد، ويضيف إليها خرافا وأبقارا وحيوانات أليفة أخرى، كما وتفنن في صناعة مغارة الميلاد بأشكال وألوان متعددة تُزَينها الأغصان والحجارة، كأنها حالة مجسمة لطبيعة حية. لم تقتصر أعماله على زينة عيد الميلاد وحسب، بل تعدتها إلى عيد الشعانين وصناعة شمعات من الخشب المزخرف والملون، يُثّبت على رأسها شمعة للطواف بدورة العيد التقليدية، ويترك لمن يقتنيها أن يزينها بالأزهار والزينة التي يريدها. كما صنع الصياح من الخشب الجاف الصلب، ذلك الصياح "البلبل" الذي كان من يقتنيه يتباهى به أمام أقرانه، لأنه كان مصنوعا بدقة تجعله يدور بسرعة عالية لوقت أكثر من غيره. ناهيك عن صناعة علب الخطوبة للعرائس، منها على شكل دبابة أو سيارة أو عدة أشكال يعجز الكلام عن وصفها. أما الشيء الغريب والمميز الذي كان يتقنه أبو جريس، فهو الحفر على خشب الزيتون والسنديان "ريلييف" (حفر ثنائي الأبعاد)، وهي موتيفات مكونة من رموز وأشكال هندسية وتوريق زخرفي متداخلة في إنشائها الفني، وذلك بدقة وحِرفية متناهية الروعة والجمال، كما وصنع حواجز خشبية نِصْفية الارتفاع، منها ما هو موجود على مدخل هيكل كنيسة بطرس وبولس للروم الملكين الكاثوليك، وقد امتاز بشكل خاص في صناعة دواليب الحناطير الخشبية، والتي استعملت في وقت من الأوقات لطنبر البلدية في خمسينيات القرن الماضي. وعلى ذكر البلدية، فمن المهم أن نثبت حقيقة تاريخية أن أول تصميم لشعار بلدية شفاعمرو كان الذي وضعه الراحل بطرس لوسيا منذ سنوات الستينات، وقد صنع أيضًا من خشب الزان المُعَشَّق كرسيّ مطرانيّ، محفور برموز كنسية مسيحية من صلبان وأسماك وأشكال هندسية زخرفية منمقة بنقوش موشومة بأدق التفاصيل، وقد قُدمت كهدية من الطائفة المسيحية في شفاعمرو إلى المطران يوسف ريا احتفاءً بسيامته مطرانًا لحيفا والناصرة وسائر الجليل.

 

حكاية

في السنوات الأولى للنكبة، أغلقت البلاد ولم يتمكن الناس من الخروج من بلداتهم، فتعثرت إمكانية التزود بالمواد الأولية التي كانت تتناقص باستمرار، فما كان منهم إلا أن يتدبروا أمورهم بما تيسر لهم. وفي خِضَم العوز والقلة وشح المواد، التجأ مدير المدرسة في شفاعمرو إلى طيب الذكر أبي جريس، وطلب منه أن يصنع له كمية وافرة من الطباشير، لأن المدرسة لم يعُد فيها أي شيء منها، فذهب أبو جريس إلى أحد بائعي الجملة في البلدة ليشتري شوالا من الجبس، فسأله البائع: "شو يا أبو جريس ليش عاوز كل هالكمية؟"، فأجابه بطيبته المعهودة: "طلب مني المدير أن أعمل طباشير للمدرسة لأنه ما عاد عندهم ولا طبشورة!"، فانفرجت اسارير البائع، وأخذ يشرح لأبي جريس كم سيصنع من الطباشير من هذه الكمية وكم سيربح منها، وطلب منه ثمن الجص خمسة أضعاف سعره الحقيقي، فاعتذر أبو جريس عن شرائه بهذا السعر الباهظ، وقفل راجعًا إلى مشغله. وفي طريق عودته التقى بالمدير الذي طلب منه الطباشير، فروى له قصته مع التاجر والسعر الذي طلبه منه، فما كان من المدير سوى أن طمأن الفنان ووعده أن يُؤمِن له كمية الجص المطلوبة بأسرع وقت. ذهب المدير إلى أحد أصدقائه العاملين في البناء وطلب منه أن يذهب ويشتري شوال الجص من ذلك التاجر بسعره العادي، فذهب واشتراه وأخذه للمدير الذي بدوره أوصله إلى مشغل أبي جريس، وقال له: "يا معلمنا انتَ مش عارف البير وغطاه، هذا طمع التجار ما لهُ حدود! سِمع بقصة الطباشير قال إجت الرزقة، خوذ يا عمي واعمل لنا كمية تكفي المدرسة، تنعَلِم الأولاد في هالظروف الصعبة".

 

من أعماله

أنجز من طاب ذكرهُ وذكراه الكثير من الأعمال الفنية المختلفة، إلا أن الرسم الملون/التصوير كان أكثرهُ، فمن رسم المناظر الطبيعية الخلابة العابقة بالغابات والأنهار، التي توجتها الآفاق والمساحات البعيدة في منظور ثلاثي الأبعاد، والزاخرة بالموتيفات الزخرفية من ورود وأزهار وأكواخ وفلاحين ورعاة وأمراء، إلى رسم مواسم الزيتون وأشجاره الوارفة من ربوع بلادنا، كما صوّر الفلاحين والفلاحات في الحقول، وحاملات الجرار من عين الماء، بأثوابهن الفلسطينية التقليدية الموشحة بالخطوط والألوان، ومعالم أثرية من شفاعمرو وحيفا والناصرة... هذا عدا العشرات من الرسومات الدينية الكنسية، التي انتشرت في الأديرة والكنائس وبيوت بعض الأقارب والأصدقاء.

تستوقفك من أعماله لوحة "عين العذراء"، بحجم 160/160 سم، بالألوان الزيتية على القماش الملصق على الخشب. تحمل اللوحة قصة قديمة من يوميات عين العذراء في الناصرة، حين كان الناس يقصدونها لتعبئة جرارهم بمياهها العذبة الصافية، واللوحة تحمل معاني الوجود الفلسطيني في ربوع هذا الوطن، ويمكن تقسيمها إلى أربع حالات، الخلفية الزرقاء الصافية، وأديم الجبال الشامخة، وعين العذراء والزيتون المنثور في محيطها، والناس الذين ملأوا جرارهم بالماء، ذلك في تسلسل لوني وتشكيل بُنْيوي متماسك ومتجانس بشكل طبيعي خلاب، فالسماء هي المدى الرحب الذي يحمل العلاقة الأبدية بين الغبراء والفضاء، والجبال تشكل السد المنيع الذي يحمي الوطن والمكان، وقد أضافها الفنان من رؤيته الذاتية دفاعًا عن الأرض وعن عين العذراء خاصة. أما عين العذراء التي يتماهى لون حجارتها بلون صخور وتربة الجبال، فقد أراد الفنان أن يجسد من خلالها الرابط العضوي بين طبيعة البنيان وطبيعة المكان، مضيفًا إليها أشجار الزيتون الوارفة الخُضْرَة والجلال، فجاءت موزعة بشكل مدروس، خاصة حين وضع في مقدمة اللوحة واحدة على اليسار وأخرى على اليمين، كأنهما إيحاء بتجدد واستمرار الحياة، بوصف الزيتون مصدر رزق وعيش كما المياه، في حين وزع الناس بين مشغول بتعبئة المياه من العين، وبين من يتحركون ذهابًا وإيابًا في فضائها، وكهل مع حفيدته يفترشان الثرى على قدم الانتظار، وفي مركزها الأمامي إمرأة وطفلة في طريق العودة إلى الديار، ويُلاحظ أن ثيابهما نظيفة تدل على نوع من الاكتفاء الذاتي، لكنه جعلهما حافيتي القدمين كرمز وتعبير عن حالة الفقر التي عانى منها الكثيرون من سواد الشعب. في حين تمركزت في مركز اللوحة عين العذراء، كونها هي الموضوع الأساسي الذي تدور الأحداث حوله، لكنه وضع على يمينها وفي عقرها الخلفي شجرة زيتون تبدو كجزء من العين ذاتها، كأنه أراد أن يجسد من وراء ذلك أن عين الماء والأرض والزيتون يشكلون الثالوث المقدس للبقاء! تتسم اللوحة بالهدوء العام رغم ملامح الصخب وحركة الحياة فيها، فتعطي المتلقي إمكانية التجول في رحابها دون قيود، لتحتفظ بها الذاكرة كمشهد تعرفه منذ عهود، لكنها لا تذكر كيف وأين ومتى كان! إنها ملَكَة الخلق عند الفنان، الذي يستطيع اجتراح حالة وجدانية لمكان ما، في تصوّر فني عصي على النسيان.

 

ميراث باق على مدى الأيام

وكما أسْلفت فيما ورد أنفًا، فإن معمل/مشغل/محترف أبو جريس كان ملاصقًا لبيته، وكل ما ينجزه كان يهيم في رحاب المكان، غير تلك الأعمال التي كانت تباع بأثمان تستحقها، فأبو جريس كان يعرف كيف يثمن ويقدر أعماله الفنية والإنشائية حق تقديرها. ومن خلال جهده وعمله المتقن والدؤوب، استطاع أن يُعيل أسرة من عشرة أنفس، هو وعقيلته وأربع بنات وأربعة أبناء، قضى ساعات طويلة من العمل وهم حوله، وقد اجتهد في أن ينقل لهم بعضًا من فنونه ومهاراته المتعددة، فبرع ابنه البكر المرحوم جريس في صناعة المفروشات المنزلية، مضيفًا إليها تلك اللمسة الفنية التي ورثها عن والده، بذلك الإتقان والدقة التي تجعل قطع الأثاث المنزلي قادرة على مواجهة تقادم الأيام والزمن. أما ابنه غسان، فقد برع في أعمال الألومينيوم البيتية، وكثيرًا ما صادفت من الأصدقاء الذين جهَّز لهم بيوتهم، بالشبابيك والواجهات والأبواب الزجاجية، وقد أثنوا عليه أيما ثناء. وأما زاهي، الذي يقارب اسمه لاسمي وعمره لعمري، فهو ممرض مؤهل يعمل في مستشفى "بني تسيون" في حيفا، فيَدهُ التي تُضمدُ جراح المرضى، هي نفس اليد التي ترسم جماليات رائعة التكوين والتشكيل الفني. وبحق، فقد ورث زاهي عن والده موهبة الرسم الملون، وأنجز العديد من اللوحات الدينية، وأخرى ذات المناظر الطبيعية الخلابة، والتي تتسم بمسحة فنية متأثرة بما كان يصنعه والده العبقري الراحل. لكن ليسمح لي صديقي أن أهمس في مسمعهِ، أن عليه العمل والمثابرة على الرسم، علّه يصل إلى ما وصل إليه طيب الذكر من روعة وحُسن وجمال. بَيْد أنني أعلم عِلْم اليقين أن الحياة صعبة، وأن زاهي لا يمتهن الرسم كحرفة، فهو يمارسه كهواية محببة إلى نفسه، تُدخل الصفاء والفرح إلى وجدانه كوسيلة لتحدي مصاعب الحياة وهمومها، وهو الذي ورث موهبة الرسم من والده، ورث أيضًا كل ما خلفه الراحل من أعمال فنية وأدوات وصور وتاريخ، وهو من يحق له أن يفخر بهذا الإرث العظيم الباقي بين يديه، بقاء القادم من الأيام والزمن.

 

لا نبيّ في بلده

على الرغم من أن شيخ الفنانين والمبدعين في شفاعمرو والجليل، عاش خمسة وثمانين عامًا، قضى معظمها في مسقط رأسه شفاعمرو، وعمل وأنجز وأبدع وبرع في شتى مجالات الفن فيها. وعلى الرغم من أن العديد من الأهالي اقتنوا الكثير من أعماله الفنية والتذكارية والهدايا الرائعة، إلا أنه رحل وكأنه لم يكُن! فلا رعوية دينية كرمته، ولا مؤسسة مدنية أوفته حقه، ولا بلدية عرضت أو فكرت لمرة واحدة أن تستثمر بيته كمتحفٍ لأعماله، بل ولم تحاول أن تطلق اسمه على مركز ثقافي أو شارع أو مَعْلَم أثري! ويبدو أنه هذا هو حال الأنبياء في أوطانهم، وهو حال المجتمعات التي تعيش لتأكل. إن ما حققوه من درجات عالية في العلم، ما هي إلا مهنة للاسترزاق والعيش فقط، ولا عجب إن لم تستضف شفاعمرو معارض للفنون التشكيلية، فعلى مدى عشرين عامًا خَلت لم يقم فيها سوى ما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من معارض! فمن سيهتم في تأسيس قاعدة ثقافية مستدامة، في بلد ساحاته وشوارعه تعاني من انعدام أدنى المواصفات المدنية؟ سوى أنها تتباهى بواجهات المحلات التجارية الكبرى، والمقاهي والمطاعم وصالونات التجميل، وما إلى ذلك من ضروريات الحياة اليومية المنتشرة في كل مكان من بقاع الأرض تقريبًا. إن ما يميز الشعوب ويحمي وجودها هو الحضارة، في كل ما تنتجه من أدب وفن تشكيلي وموسيقى، وغناء ومسرح وشعر، إن حملت هذه الرايات صفاتها الإنسانية الإبداعية الراقية، حملت تاريخها وإرثها الحضاري إلى القادم من الأيام والسنين، وإن لم تكن منتجة وحية فيه، فعلى الدنيا السلام...

السلام الأبدي لروحك أيها الفنان العريق، بطرس لوسيا، يا شيخ الفنانين والمبدعين في شفاعمرو والجليل، ولذكراكَ عِطر طيّب ومحبة وبقاء.

         

أيضًا:

أبو جريس..

يا بَسْمة لَون في لوحَة عَتيقَة

يا زَهرَة مفَتحَة بأَجمَل حَدِيقَة

يا صُورة رَب عَ دَرب القَداسِه

عَ حيط كنِيسة المَجْد العَرِيقَة

يا أَيقُونِة رَسِم فِكْرَك صَنَعْهَا

بِقُدس الرُوح قَدَسْت الخَلِيقَة

بُطْرُس صَخِرْتَك في أَرض البَرايَا

بِرُوحَك شِلتَهَا وصَارَت رَفِيقَة

عَلى جْبِيّن البَلَد سَجَلّت اِسْمِك

بِرَسْم مُوثَق بِرَاس الوَثِيّقَة

كُل مَا الفَن عَم بُخْطُر بِبَالِي

بِتْذَكَرَك وِبْقُوّل مِثِل مَا قَالوُا

الزَمَن غَدَار مَا عِرِف الحَقِيِقَة.

 

مطلع آذار 2021، شفاعمرو/الجليل

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب