news-details

"تذكرتان إلى صفورية"- النكبة، التشتت والهوية (1-2)| رياض كامل

مقدمة

ليس القارئ بحاجة إلى الكثير من الجهد والتفكير ليرى أن الرواية العربية الفلسطينية، التي تتناول موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تنبثق أحداثها وتُستمَدّ من نكبة عام 1948، وأن سبعة عقود ونيفا غير كافية لمحو آثارها وأبعادها على حياة الفلسطيني حيثما تواجد. وما أحداث المواجهات، على اختلافها: فكرية وسياسية وعسكرية، سوى محصلة هذه النكبة. وكل من يرى أنّ هذا الصراع هو صراع عسكريّ إنما يأخذه إلى السطح لا إلى العمق، لأنه في أساسه هو خلاف بين فكرين متناحرين وروايتين متضادتين. وأي مواجهة أخرى هي نابعة من هذا التضاد. هذا برأيي، ما تتغيا أن تقوله رواية "تذكرتان إلى صفورية" (2017) للروائي المغترب سليم البيك.

تسعى هذه الرواية إلى طرح عدة قضايا يتواجه معها الفلسطينيّ المشتّت الذي لم يجرّب النكبة مباشرة، ولم يحمل أمتعته على ظهره، ولم يترك وطنه وبيته وجيرته وحقله وأشجاره. هي رواية الجيل الثالث، ممثَّلا بالشخصية المركزية للرواية، الذي يواجه متاعب نفسية تلاحقه حيثما تنقّل، سواء كان ذلك في قطر عربي، أو في بلد أوروبي؛ رواية تعالج رحلة بحث الفلسطيني، الذي لا يعيش فوق تراب وطنه، عن هوية يقتنع بها هو أولا، ويُقنع بها الآخرين ثانيا.

 

عصب الرواية

 تحكي الرواية قصة شاب فلسطيني في الثلاثينيات من عمره، يدعى يوسف، يعيش متنقّلا بين دبي، مكان ولادته وعمله، وبين مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا، حيث ولد أبواه، وحيث تعيش العائلة التي هُجِّرت من فلسطين عام النكبة. يُطرد يوسف من عمله في دبي إثر خلاف مع مُشغِّله، فيعود إلى المخيم لكنه يضطرّ للهرب منه مع بداية الأحداث في سوريا نتيجة معارضته للنظام هناك ليصل، بعد رحلة مضنية، إلى مدينة تولوز الفرنسية. تساعده في التأقلم هناك شهادة جامعية في اللغة الفرنسية يحملها من جامعة دمشق.

يسعى هناك للحصول على الجنسية الفرنسية وعلى جواز سفر يتيح له الوصول إلى "فلسطين" كي يتمكن من زيارة بلد الآباء والأجداد ولقاء من بقي فيها من أقرباء. يتعرّف في مكان إقامته إلى فتاة فرنسية تدعى ليا، التي تصبح صديقة وحبيبة. تقدّم له هذه الفرنسية الدعم المعنوي والتشجيع الدائم للحصول على جواز السفر الفرنسي، وتحقيق أمنيته بزيارة قرية جدِّه، صفورية، التي هُجِّر أهلها عام النكبة (1948)، وإكمال كتابة روايته حول تجربته الحياتية الصعبة. تقترح عليه ليا أن تكون البداية من لحظة وصوله إلى المطار قبل سنة، متأخرا نصف ساعة عن موعد إقلاع الطائرة إلى مطار "بن غوريون" في تل أبيب، مما حال دون تمكُّنه من السفر، وأن يعود بالأحداث إلى جذور قضيته، وتشرّد أجداده عام النكبة، وخسارة الوطن، وتشتّت العائلة، وتشتّته هو أيضا، ما سبّب له كل هذا التعقيد والبلبلة في تحديد مكونات هويته. ينجح أخيرا مع صديقته الفرنسية في حجز تذكرتين، ويصلان المطار قبل الموعد كي لا تتكرر التجربة القاسية قبل سنة، فيجلس في الصالة فيما عقله وقلبه منشغلان فيما سيرى وفيمن سيقابل هناك في بلاد جدّه الصفوريّ.

 

المكان والمواطنة والتشيؤ

يُحدِّد مكانُ الولادة جنسية المولود، ويؤهله لنيل كامل حقوق المواطنة، والحصول على جواز سفر يحمله صاحبه ليتيح له التجوال في بقاع الأرض الواسعة. أما ولادة الفلسطيني في أي قطر عربي فإنها لا تعطيه هذا الحق أبدا، وبالتالي فإنه يبقى بدون جواز سفر من ناحية، ومحروما من كثير من الحقوق المدنية اليومية، من ناحية أخرى. يفرض هذا الواقع قيودا ترافق الفلسطيني من جيل لجيل، فتحدّ من تحرّكه، وتضيّق عليه سبل العمل والعيش الكريم، ما يجعل الفلسطيني يتشبّث أكثر بانتمائه إلى شعبه، ويزيده قناعة أن النكبة هي المسبب الأول لهذا الضيم، ولهذه "الشنططة"، حسب تعبير يوسف، فيمنّي نفسه بالعودة إلى بلد الآباء والأجداد والتخلّص من هذا الواقع الأليم.

يبني سليم البيك روايته اعتمادا على هذا الواقع، وعلى هذه الحالة المتفرّدة التي تميّز الفلسطيني دون غيره. ويكشف عما يجول في خاطر أبناء الجيل الثالث من مشاعر وأمان وتخبّطات، ويبيّن أسباب انتمائهم إلى مسقط رأس الجد، لا مسقط رأسهم هم.

من الطبيعي أن ينتمي الفرد إلى مكان ولادته ومسقط رأسه، وإلى المكان الذي يعيش فيه وينمو فيه. لكن الظروف الخاصة تدفع الفلسطيني إلى الانتماء إلى فلسطين التي لم يولد فيها، وإلى توريث هذا الشعور وهذا الانتماء من جيل لجيل؛ فلا هو ينتمي إلى البلد العربي الذي ولد فيه، ولا إلى البلد الغربي الذي يوفّر له حق المواطنة الكاملة. إنّ ما ينقصه أكبر من وريقات يحملها في جيبه تحدّد جنسيته، فما ينقصه هو الشعور بالانتماء إلى المكان ومَن عليه، شأنه شأن أي إنسان له أرض ووطن وبيت وعائلة. هذا ما كانت عليه حالة يوسف، وهو الذي لا يتوقف عن حوار ذاته قبل أن يحاور الآخر، حول حقيقة هويته، التي يجهد في ترميمها إثر كل صدمة يتعرض لها.

يدرك يوسف، الشاب الفلسطيني، وهو المشتّت والمشرّد، حقيقة مأساة فقدان الوطن/ المكان، بكل ما يحمله ذلك من معنى، ويجهد في تفسير انتمائه للآخرين. لذلك حين يُسأل عن جنسيته فإنه يجيب دون تردد أنّه من فلسطين التي لم تكن مسقط رأسه ولا مسقط رأس والده المولود في مخيم اليرموك في سوريا، بعد أن هُجِّرت العائلة من قرية صفورية في فلسطين. لا يشعر يوسف بأي انتماء إلى دبي، التي ولد فيها وعاش فيها نصف عمره، ويرى نفسه أقرب إلى سكان المخيمات الفلسطينية، وإلى مخيم اليرموك، بشكل خاص، "يوسف الذي ولد وكبر في دبي لم يتعرّف على مخيم اليرموك إلا من خلال الزيارات الصيفية لأهله". (ص114)

تتواجه الشخصية المركزية في الرواية مع هذا الواقع حيثما حلت، سواء كان ذلك داخل الوطن العربي أو خارجه، لأن ذلك يستدعي سؤالا متكررا: من أي جزء من فلسطين أنت؟ وكأنّ تحديد الهويّة من خلال كلمة "فلسطين" لم تعد تكفي لتحديد الانتماء المكاني، فقد سُلب المكان وغُيِّب عن أصحابه، وبات ذلك قانونا دوليا، يفرض على الفلسطيني الاعتراف به قسرا، لا اقتناعا حتى يتمكن من الحصول على الماء والطعام والهواء لا أكثر، وكأن هناك مسعى لتحويله إلى آلة تتحرك بمشيئة الآخرين دون مراعاة الجانب الذهني والعقلي والعاطفي. هو التشيئ الذي يحرم المرءَ حقَّه في الحياة كإنسان له مشاعر وله أحاسيس، وله ماض وحاضر ومستقبل.

يوسف هو الفلسطيني المشرّد، لا المشتّت فقط، لم يشعر بالانتماء إلى أي مكان عاش فيه؛ دبي التي ولد فيها لا تشبهه في شيء، هي مجرد مكان للعمل، يجمع، وفق رؤية أهلها، ثروة ثم يعود إلى سوريا "بلده" ليبني هناك بيتا. والإثبات على ذلك أنه كان سهلا على المُشغِّل أن يُبعده عن مكان عمله لمجرد خلاف بسيط. أما المخيم فهو أكثر ألفة إليه رغم أنه لا يشعر بالانتماء إليه هو أيضا، والسوريون يعتبرونه "ضيفا"، "والضيف يبقى ضيفا" (ص116)، وهو هنا ضيف على أهله الضيوف في سوريا، وهو غريب عن أهل المخيم؛ غريب بين غرباء، وهو بالنسبة لفلسطينيي ال48 من الخارج لا من الداخل، باختصار هو من "الآخرين" حيثما تواجد.

يصل يوسف، أخيرا، إلى فرنسا وقد تخطّى الثلاثين من عمره. هنا له صديقة فرنسية يصارحها بكل هواجسه وهمومه ويمارس معها الجنس، دون أن يسائله أحد في ذلك، ويحمل جواز سفر، ويتمتّع بحقوق مثل بقية المواطنين، وهو ما لم يحصل عليه في البلدين العربيين، لكن هذه البلاد ليست بلاده، ولن يكون واحدا من أهلها، وسيظل الجميع يرون ملامحه الشرقية التي تشي بأنه مهجَّر وليس من أصول فرنسية. لم يتنكّر يوسف لفرنسا ودورها في تمكينه من حقه في رؤية فلسطين، ولا من ممارسة حقه في الحياة بصورة طبيعية، لم يُلاحق لأسباب فكرية أو سياسية، ولم يعترض أحد، هنا، على أفكاره الاجتماعية، حتى ليبدو شابا يعيش كما يحلو له أن يعيش، ويلبس كما يحلو له أن يلبس، ويمارس الجنس مع صديقة فرنسية، يأكل مثل الفرنسيين، ويشرب مثلهم ويتعطر كما يتعطرون، بل ويكثر من الحديث عن روائح تنتشر هنا وهناك، وعن زهور تبثّ رائحتها الفرنسية دون أن ينصهر في الفكر الفرنسي، ودون أن يتبنّى أي رأي يدعم تيارا سياسيا فرنسيا؛ فما يشغله هو هاجس الهوية الفلسطينية، التي كانت النكبة، رغم أنه لم يجرّبها على الصعيد الشخصي، المسببَ الرئيسيَّ لهذا الضياع، وهذه البلبلة وهذا التشتت.

هذا الشعور بالاغتراب عن المكان، وصعوبة تحقيق هوية حقيقية على أرض الواقع، يدفع يوسف الفلسطيني، ابن الجيل الثالث إلى محاربة كل ما يقف عائقا أمام تحقيق ذاته، رافضا التشيؤ والتنازل عن الهوية، مهما كان الواقع صعبا، فإن كان آدم قد طرد من الجنة، فإن الفلسطيني، كما يُستشف من مواقف يوسف، قد طرد من فردوسه المفقود، لكن هذا غير ذاك؛ فطرد آدم ناتج عن اقترافه خطيئة دفعه إليها إبليس، وهي ما لم يقترف مثلها الفلسطيني، لا في السابق ولا في الحاضر. وما التذكرة إلى صفورية إلا الخطوة الأولى تتلوها خطوات أخرى. وأما ما قدمته فرنسا من مغريات، وهي كثيرة، فلم تمنعه من تحقيق ذاته ورؤية ما يمور في داخله من مشاعر أقوى بكثير من تلك المغريات.

 

المكان والهوية الملتبسة

إن أحد أهم المواضيع التي تناولتها الرواية العربية الفلسطينية كان ولا يزال موضوع الهوية، فقد عمل الآخر على محاربتها وتزييفها وتشويهها، متناسيا أن فوق هذه الأرض، ومنذ قديم الزمان، يعيش شعب عربي له جذوره وتاريخه وماضيه، وأن هذه البلاد، كما كل البلدان العربية، تناوبت على حكمها شعوب متعددة، وأنها كانت تحت الحكم العثماني مدة قرون أربعة، تلاها استعمار أوروبي. ولما تأسست الدول العربية الحديثة وتحرّرت من نير الاستعمار، بقي الشعب العربي الفلسطيني، وحده، بدون دولة، فيما قامت دولة إسرائيل على جزء كبير من هذه الأرض (1948)، وتبع جزء منها (قطاع غزة) إلى سلطة مصر وقسم آخر (الضفة الغربية) إلى سلطة الأردن، حتى كانت النكسة والهزيمة العربية (1967) التي مكّنت إسرائيل من بسط نفوذها على كامل الأرض.

تتناول رواية "تذكرتان إلى صفورية" موضوع الهوية كثيمة مركزية لها، وتتوقف عند الجيل الفلسطيني الثالث، كما ذكرنا، لتضعه في مواجهة مع الواقع، ومع حقيقة هذا التشتّت والتشقّق الذي يصل تأثيره بعيدا، ويمتد زمنيا حتى أجيال ما بعد النكبة في بحثهم عن الهوية. لم يعش يوسف يوما في فلسطين كما عاش جدّه، ولم يدخل في تجربة الشعور بالانتماء إلى أي قرية أو مدينة في فلسطين لأنه لم يعش فيها ولو يوما واحدا. فالوطن، كما هو معتاد، هو المكان الذي تولد فيه، وتكبر فيه، وتبني فوقه بيتا وعائلة، وتنطلق منه حاملا هويته وجواز سفره. لقد ولد يوسف في دبي، ووالداه في المخيمات، وجدّه في صفورية التي في فلسطين، وتنقّل هو بين دبي ومخيم اليرموك في سوريا، ويدخل الآن في تجربة جديدة تنضاف إلى مجمل تجربة الفلسطيني؛ العيش في دولة أوروبية. يزيده ذلك شعورا بالاغتراب، ما يدفعه للبحث عن صيغة يقبلها هو ويدرك مفهومها بعض من يسأله عن أصوله. إذ حين يرى زملاؤه في العمل هذا "السمار" يطرحون عليه سؤالا بصيغتين "من أي أصل أنت"، أو "من أين أنت". كان عليه، كي يجيب، أن يعطي مقدمة مطوّلة قد لا تعني الكثيرين من زملائه الذين لا يفقهون الفرق بين أن يكون فلسطينيا من منطقة ال 48، أو من فلسطينيي الضفة أو من قطاع غزة، أو من فلسطينيي الشتات.

إن المكان أحد مركبات الهوية الرئيسية، لكن قسما كبيرا من الفلسطينيين فُرض عليهم أن يعيشوا تجربة المكان من بعيد، من خارجه، عبر توريث الذاكرة من جيل لجيل. هي تجربة قاسية ولئيمة يذوق مرَّها أبناء الشعب الفلسطيني. والغريب في الأمر أن الجيل الثالث الذي لم ير فلسطين، لا من قريب ولا من بعيد يصرّ على حمل الهوية الفلسطينية فكرا وانتماء، وإن كان محروما من المكان. ولكي يزور فلسطين، مجرد زيارة، عليه أن "ينجح" في الحصول على جواز سفر البلد الأوروبي الذي يعيش فيه. لقد شعر يوسف أنه بات أقرب إلى فلسطين حين نجح في الحصول على جواز سفر فرنسي، وبالتالي بات ممكنا القيام بزيارة إليها ورؤية قرية صفورية التي بقرب مدينة الناصرة، وملامسة المكان الذي ولد فيه جده.

حين نحاور أية رواية فلسطينية تستمد أحداثها من النكبة يجدر بنا توسيع الحديث عن علاقة الفلسطيني بالمكان وعن تأثيره فيه وتأثّره به، وعن صلته بأشجاره وأحجاره، وطيوره وحيواناته، والأبنية وساكنيها، وعن الأهل والجيرة، وعن كل ما يتعلق بالحياة اليومية وعما كان يمنحه للمرء من أمن وأمان. لم يعش يوسف أي تجربة من هذه التجارب؛ لم يولد في فلسطين، ولم يسافر في أنحاء الوطن للتعرف عليه، ولم يغرس شجرة، ولم يبن بيتا، وبالتالي لم يدخل في تجربة النكبة سنة 1948، ولم يترك بيته وأهله وجيرته وأترابه، لذلك لا نرى وصفا دقيقا للمكان بكل مركباته، كما هو مألوف في السرديّة الفلسطينية. ومع ذلك يجاهد يوسف كي يحظى بزيارة البلدة التي ولد فيها جدّه واللقاء بأقاربه هناك، فنراه يكثر من الحديث عن نكبته وعن التشتّت والتشرّد، وعن لهفته إلى فلسطين، مؤكدا أنّ انفصاله عنها كان انفصاليا مكانيا قسريا: "كان يوسف مدركا أن التشقّق، أو التشتّت، في حياته وحياة عائلته، من جده إلى أبيه، لم يكن زمانيا ومقتصرا على المرور بين الأجيال فحسب، بل كان مكانيا، محصورا في يوسف نفسه، ووحده دون أبيه وجده. وقدومه إلى فرنسا أضاف إلى هذا التشتت المكاني مرحلة أخرى، أو مكانا يضاف إلى أمكنة شتاته الشخصي، فكان مدركا تماما أنه لم يكن فلسطينيا إلا بالمعنى القلق، إلا مرورا، كان فلسطينيا دون انتماء مطْمَئن ومستقر لمكان فلسطيني". (ص 112)

لم يتمكن "التشتت" و"التشقق" و"التهجير" و"الغربة" من حرمانه من الشعور بانتمائه إلى فلسطين، ولم يستطع كل ذلك أن يسلب منه شغفه في تحقيق اللقاء بها. فالمرء، كما يستشفّ القارئ من تنامي الأحداث، ينتمي إلى أب وأم وجدّ وجدة أيضا، وإلى عائلة هي جذوره التي لا يمكنه التنازل عنها مهما "تفلسف" محاولا محاربة الانتماءات "العشائرية". فالعائلة التي أتت بك إلى هذا الكون هي التي تورثك الذاكرة، وهذه الذاكرة ترسخ المكان. والمكان الذي ولد فيه الجد هو مكانك.

إن طرد الفلسطيني، وفق رؤية يوسف/ أو سليم البيك، وولادة الأولاد والأحفاد خارج الوطن لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بمصادرة الوطن والتنازل عن الحق التاريخي فيه، بل ربما كان طرد الجد منه هو دافع إلى تشبّث الأحفاد به، وإلى عدم تنازلهم عن "حق العودة" الذي تسعى الرواية الفلسطينية إلى تجذيره. لم ينتم يوسف إلى أي مدينة أو أي بلدة، أو أي قارة، ولم يكن سهلا عليه أن يحدّد هويته تجاه هذه الأمكنة التي عاش فيها، لكنّ شيئا واحدا لازمه هو العودة إلى تلك القرية التي ولد فيها جده، بجانب مدينة الناصرة. هذا هو المكان الوحيد الذي يشعر أنه يحب أن يعود إليه، لكن كلمة "عودة" هنا، بحد ذاتها كلمة ملتبسة، فهو لم يولد في هذا المكان ولم يعش فيه ولو يوما واحدا، ومع ذلك فهو يستعمل الفعل "يعود"، مؤمنا أنه لولا النكبة لولد في نفس المكان الذي ولد فيه جده، لكن من سبّب النكبةَ حرمه من حق الولادة فوق أرض الأجداد وحرمه من حق المواطنة كصاحب بيت لا كضيف. (يتبع)

 

في الصورة: وادي صفورية المهجرة الباقية على موعد مع عودة اهلها

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب