news-details

صفحات من سيرة ذاتية: نصراوي من حارة العين| د. هاني الصباغ

* هذا الكتاب

كثيرة هي الكتب المطبوعة التي تناولت تاريخ الناصرة وأهلها من نواح متعددة وفي أزمنة مختلفة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مؤلفات كل من عيسى إسكندر المعلوف "دواني القطوف" و"تاريخ الناصرة" لكل من يعقوب فرح(1) وحنا سمارة والقس أسعد منصور والأستاذ محمود كناعنة ونهى زعرب قعوار وكتاب فضيل جرجورة "تاريخ عبدالله القلزي" وكلها باللغة العربية، وما يشبه السيرتين الذاتيتين للدكتور الياس سليم سروجي والمهندس عزمي سليم عودة باللغة الإنجليزية، وما كتبه العديد من الرحالة والمستشرقين الأجانب ممن أقاموا في الناصرة أو مروا بها عابرين وقضوا فيها بعض الوقت وكتبوا مذكراتهم أو رسموا لوحات لمناظر منها أو التقطوا صورًا فوتوغرافية لما أثار اهتمامهم أو نال إعجابهم من معالمها. ولا بد لي هنا من أن أذكر من جملة الكتب المطبوعة كتاب الصحفي الأستاذ منقذ الزعبي الذي جمع فيه مقالات متفرقة كان نشرها في جريدة "العين" عن شخصيات ذات خلفيات ثقافية وطبقية متباينة، فجاء فريدًا من نوعه. ومن الكتب الجديرة بالذكر في هذا المقام أيضا كتاب الأستاذ خالد عوض الذي جمع فيه العديد من صور مدينتنا في أزمنة مختلفة من عمل فنانين ومصورين أجانب عديدين. والكتاب بالإضافة إلى قيمته التاريخية يدل على الجهد الكبير الذي بذله المؤلف لإنجاز هذا العمل وإخراجه إلى النور.

ليس في المكتبة العربية كتاب يتحدث عن سيرة الناصرة في الفترة التي انصرمت منذ أن وقعت الواقعة، أي منذ نيف وسبعين عامًا. وأقصد بسيرتها تلك التغيرات والتغييرات التي حلت بها والأحداث التي شهدتها، فجعلت منها ومن فلسطين عامة أشبه بسجن كبير تنتزع فيه الحريات وتسلب البيوت والممتلكات وتهدم الإرادات، تصادر الأرض العربية، يسجن الإنسان الفلسطيني ويقتل لدفاعه عن حقوقه وحقوق بني جلدته وعن وطنه.

 أما الآن وقد تقدمت بي السنون وما بقي من العمر بقدر ما مضى، كما يقال مع أني أرغب في المزيد، ونزولا عند رغبة البعض من طلابي وأصدقائي وأهلي، النجباء منهم وغير النجباء، وعندما يمليه عليّ الواجب الوطني والذكريات حلوها ومرّها، قررت أن أودِعَ بعضًا مما في جعبتي ومما تسعفني به الذاكرة بطن كتاب يحفظ تفاصيل صور حية ديناميكية للناصرة كما عرفتها وعرفها أبي من قبل ولتلك الذكريات السحيقة، ذكريات الطفولة والشباب والرجولة والكهولة بما فيها من فرح وحزن وقهر وتصميم وكفاح .

لا يمت هذا الكتاب بصلة إلى أي نوع من أنواع كتابة التاريخ. فليس هو من كتب السيرة او السيرة الذاتية أو الحوليات أو تاريخ البلدان وغير ذلك كله. إنه مجموعة من الذكريات ارتبطت بالذات وما حولها مع مرور الزمن فرسخت في الذاكرة عميقًا. والذكريات كما يعلم القارئ الفطن لا تلتزم بقواعد أيًّا كانت فتتداعى دونما تسلسل زمني. ترتبط الأحداث بعضها ببعض كما تمليه الذاكرة العتيقة، مما قد يجعل الكتاب مشوقًا أحيانًا ومملًا أحيانًا أخرى، ولكنه ما يلبث أن يشد القارئ إلى معرفة مجريات الأمور من تاريخ الناصرة القديم-الحديث المعيش الذي قد تعود شخصياته الحقيقية بالبعض منّا إلى أيام عاشها آباؤه وأجداده أو أحداث مرت به أو قصص سمعها أو معلومات حقيقية أصبحت جزءًا من كيانه أو لم تصبح.

 

  • دار المزط

حدثني أبي قال: كنت في السادسة عشرة من عمري إلا قليلًا عندما توفي والدي يعقوب بن يوسف الصباغ بمرض عضال قاومه زمنًا، ولكنه ما لبث أن خضع للموت، سُنة الحياة. أما والدتي فهي نجمة بنت سعيد الموسى الملقبة عائلته بدار المزط. تقول الرواية الشائعة على ألسنة أهل الناصرة في تعليل هذا اللقب، إن جدهم كان قد حبسه المعلم يومًا في غرفة الكُتّاب عقابًا له على ذنب اقترفه، فلما انتهى اليوم وانصرف أترابه خارجين إلى بيوتهم، تجمعوا خارج أحد الشبابيك يسخرون منه ويصيحون بأعلى صوتهم " يحليلو محبوس... يحليلو محبوس". غضب وأخذ غضبه يشتد فزجّ بنفسه بين قضبان النافذة الحديدية حتى استطاع الخروج من بين تلك القضبان لضآلة حجمه، مما جعل الصبية المتجمعين عند الشباك يصيحون "مزط، مزط" فالتصقت تلك الصفة به وبنسله فأصبحت هذه العائلة تعرف بدار المزط.

 

  •  

 ولما كانت نجمة وحيدة والديها المتوفيين، ورثت عنهما كل ما يملكان من أواني الطبخ وأثاث البيت. كانت في منتصف العقد الرابع من عمرها عندما توفي زوجها يعقوب بن يوسف الصباغ أشهر صانعي الأحذية في المدينة وابن عمّ شيخ طائفة الروم الأرثوذكس عندئذٍ جريس الصباغ الملقب باللحام. تزوجته ولما تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها. عاشت في كنفه عشرين عامًا وأنجبت منه ثلاثة عشر طفلًا وطفلة ما عاش منهم سوى بنت واحدة أكبرهم، راضية، التي تزوجت من الياس التوما أحد مشاهير البنائين في الناصرة والمنطقة، وصبيين اثنين. بعد زواجها وهبها أبوها قطعة أرض كان يملكها في "حارة الصبر" ليبني لها زوجها بيتًا يأوون إليه.

كانت أختي تكبرني بأربع سنوات، أما أخي فكان يصغرني بثلاثة عشر عامًا. لم يكن النساء يدرين سبب موت أطفالهن بعد الولادة ببضعة أشهر وكل ما عرفنه أنهم كانوا يصابون بالريقان، فتصفر وجوههم، ولمنع ذلك كانت النساء يغطين وجوه الأطفال بمنديل أصفر ليمتصّ اللون الأصفر، لون الريقان، وكان ذلك علاجًا ناجعًا وواقيًا في كثير من الأحيان.

 

  • كنت شغوفًا بالقراءة.. وتعلمت الأبجدية وكتابتها

لما بلغت السابعة ألحقني والدي بالصف الأول في مدرسة الطائفة الأرثوذكسية، وكان قد علمني العدّ حتى المئة وحفظّني الأبجدية وكتابتها. كان من الصعب على الأولاد حفظ عدد النقط وموضعها على الحروف أو فوقها، فكانوا يحفظونها قائلين: ألف لاشِن (لا شيء) عليها، البا وحَدِه من تحتها، والتا تنتين من فوقها، والثا تلاته من فوقها، والجيم وحده في نصها، والحا لا شِن عليها... وهكذا.

كنت من التلاميذ المتقدمين في الكتابة والقراءة وفي العدّ إلى مئة وجمع وطرح الأعداد الصغيرة إذ كان والدي يتسلى في ساعات المساء، فيعلمني ما يراه مناسبا وعمري: حفظ الصلوات، قراءة آيات من الكتاب المقدس، شيء عن نظام الحكم ومركزه وأداء الدعاء للسلطان عبد الحميد الذي ضربت على اسمه النقود الذهبية المسماة غازيات، وعن الدولة الروسية الراعية للأرثوذكس وقيصرها نيقولا الثاني وزوجته ألكساندرا.

 كنت شغوفا بالقراءة والدراسة محبًّا للعلم وكنت أصبو للالتحاق بدار المعلمين الروسية بعد إنهاء الدراسة في مدرسة الطائفة الابتدائية (المبتديان) لأتخرج منها معلمًا كابن عمي خليل بن إبراهيم النمر، وأشارك في مهمة تعليم أبناء وطننا السوري والرقي بهم إلى مصافّ البلدان المتحضرة.

لما أنهيت الصف السادس ، الصف الأخير، وكنت من الطلاب المتقدمين بل كنت أولهم تقدمت بطلب للالتحاق بتلك الدار التي كانت يومئذٍ محجًّا يؤمه الطلاب من جميع أنحاء الديار السورية. وكان على الطلبة الراغبين في الانتساب إليها أن يتقدموا إلى فحص كتابي تليه مقابلة شفهية يجريها أستاذ تعينه الإدارة ويجتازوهما. عينت إدارة المدرسة الأستاذ خليل بيدس الذي كان رجع من زيارة لروسيا على نفقة الجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية الروسية خريج دار المعلمين ليختبرني، إلا أنها استبدلته بالأستاذ المعروف مدير السمينار إسكندر كُزما ليقوم بمهمة المقابلة الشخصية واختبار المعلومات لمّا تبينت صلة القرابة بين الأستاذ بيدس وبيني حفظًا لنزاهة قبول الطلاب.

 ذهبت في اليوم المحدد ووقفت مع الطلاب الذين كانوا ينتظرون دورهم للفحص. خرج طالب من خريجي تلك السنة ودعانا جميعًا للدخول إلى غرفة كبيرة والجلوس فيها فجلسنا حيث شئنا. لم أعرف من هؤلاء الشباب أحدًا. كانوا كلهم أغرابًا قدموا من أنحاء سوريا الكبرى. ساد الصمت والهدوء. جلست في نهاية الصف الأول من المقاعد مما يلي الجدار أفكر: ماذا لو لم أجتز الامتحان؟ ذلك يعني العمل مع والدي في دكانه.

 

**. زال خوفي واضطرابي حالما انغمست في قراءة الأسئلة

كان امتحان الدخول يشمل ثلاثة أقسام: اللغة العربية والحساب كتابة ومعلومات عامة عن البلاد وتاريخها شفاهًا. كُتِبَتْ الأسئلة على اللوح وخُصِّصَت خمس وأربعون دقيقة لكلٍ من القسمين الأولين ونصف ساعة للقسم الثالث. وُزِّعَت دفاتر الإجابة علينا وقُرِع الجرس إيذانًا ببدء العمل. بدأنا بكتابة أسمائنا والإجابة على الأسئلة كلٌّ على دفتره. زال خوفي واضطرابي حالما انغمست في قراءة الأسئلة وفي الإجابة عليها فما شعرت إلا والجرس يقرع إيذانًا بانتهاء الوقت. يا ألله! مضت ساعتان وأنا أكتب والحمد لله أجبت على كل الأسئلة بدقة وترتيب. توقف الكل عن الكتابة. تركنا دفاتر الإجابة على المقاعد وخرجنا ننتظر الدخول إلى القسم الثاني وهو الفحص الشفهي والتعبير باللغة العربية الفصحى. طال انتظارنا وقدمت لنا أكواب الشاي المحلّى بالعسل الطبيعي ريثما يفرغ الأستاذان من قراءة الإجابات.

 

  • * ما هي صلة القرابة بينك وبين الأستاذ خليل بيدس؟

أخذ المشرفون على الامتحان بعد ذلك ينادون الطلاب الممتحَنين للامتحان الشفهي ولم يكونوا كثرة بأسمائهم ويدخلونهم إلى غرفتين مختلفتين. دعيت للدخول إلى إحدى الغرف. خلف الطاولة جلس أستاذ مهيب رحب بي ودعاني للجلوس . ثم بادرني بقوله:

- أنا الأستاذ إسكندر كُزما وقد عُيِّنت لامتحنك شفهيًا بدلًا من الاستاذ خليل بيدس في الغرفة الأخرى حفظًا على أمانة الامتحان، فقد نما إلى الإدارة خبر مفاده أنك قريبه. قل لي يا بنيّ، ما هي صلة القرابة بينك وبين الأستاذ خليل بيدس. عجبت للسؤال وقلت في نفسي لن أتبرأ منه "فالبزقة بتخفاش تحت حجر".

 - هو ابن عم ولكنه ليس من بيت الصباغ. هو ابن عمّي إبراهيم النمر، والنمر والصباغ أبناء عمّ، وهو يكبرني بعشر سنوات على ما أظن.

سألني بضعة أسئلة في اللغة العربية وعن جغرافية الدولة العليّة وعن نظام الحكم فيها واسم السلطان وعن روسيا القيصرية واسم قيصرها. أجبت على كل الأسئلة بفصحى نالت إعجاب الأستاذ. تلا ذلك أسئلة في جغرافيا الكرة الأرضية وفي جغرافية البلاد السورية عامة والفلسطينية خاصة. أجبتها كلها وقد علت علامات الدهشة والإعجاب وجهه الأسمر واعوج شارباه لتلك الابتسامة الخفية على فمه تحتهما.

- مبروك يا راجي يا بني، أنت فعلًا تستاهل أن تكون واحدًا من طلابنا لأن إجاباتك في القسمين الكتابي والشفهي كانت كلها صحيحة ودقيقة وواضحة، وأكثر ما يعجبني في إجاباتك أيضًا فصاحتك ودقة تعبيرك وخطك الجميل وترتيبك. من علّمك كل هذا؟

 -أبي وأساتذتي في مدرسة الروم يا حضرة الأستاذ. هزّ الأستاذ رأسه وهمهم متفهمًا وقال: - مبروك مرة أخرى يا بنيّ. لقد نجحت. أنت مقبول. يمكنك الانصراف. لكن قبل أن تنصرف خذ هذه الورقة وهي شهادة الاجتياز واحتفظ بها لحين بدء السنة الدراسية، فهي الموافقة على قبولك طالبًا في كُلّيتنا.

خرجت من الغرفة أكاد لا أصدق ما سمعَته أذناي: "نجحت". شعرت بخفقان سريع في صدري، بدأ قلبي يرقص فرحًا. طرت إلى السوق، إلى دكان والدي لأزفّ له البشرى. كنت أشعر وكأنّ الدكان يبتعد عني كلما ازددت منه اقترابًا. لم أصدق أني وصلت بتلك السرعة. دخلت الدكان وصحت وأنا الهث "يابا يابا نجحت في الامتحان، نجحت يابا".

 

** أريد أن أعلمك الصنعة لتصبح أحسن صانع أحذية في الناصرة

وكما ترى ها هي صحتي تسوء يوما بعد يوم. وقد نصحني رئيس المحكمة الكنسية للروم الأرثوذكس العم الخوري عيسى خليف أمد الله في عمره، أن أكتب وصيتي بعد قسمة الملك بيني وبين أخي، عمك سليمان. أنت بالتأكيد تعرف معنى ذلك. أوصيك بأمك وبأخيك الطفل خيرًا. لا تنس أختك وزوجها. حافظ على طيب العلاقة معهما ومع بقية أفراد عائلتنا فالمثل يقول "من شلح ثيابه عري". أنا أعرف ثقل المسؤولية التي ألقيها على كاهلك في هذا العمر. أما الآن وقد أنهيت "المبتديان" وأصبحت رجلًا أريدك أن تبقى وتعمل معي في الدكان أعلمك الصنعة لتصبح أحسن صانع أحذية مثلي بل ربما تفوقني في ذلك، كي تستطيع أن تعيل أمك وأخاك حتى يكبر.

كان ما سمعته خيبة أمل وصدمة شديدة. كاد قلبي يتوقف عن الخفقان، ضاعت آمالي وأحلامي وذهبت هباء منثورًا. شعرت بانقباض شديد وضيق في الصدر ودوار في الراس.

- أمرك، يابا متل ما بدك. أنا مروّح على البيت.

قلت بصوت خافت وعينين دامعتين . أدرت ظهري له واتجهت نحو الباب خارجًا. ناداني، توقفت.

 - راجي، اسمع يابا. لا تقل لأمك شيئًا مما دار بيننا. أنا اخبّرها. كمان شي. يوم الأحد القادم بعد القداس سيزورنا العم الخوري عيسى خليف وأخي عمك سليمان، والسادة موسى عصفور وبشارة النمر وسليم جرجورة الخوري وزكريا توما أبو نمر ويوسف العودة بو نمر وغنطوس النمر وسليم ورور والمعمرجي ناصر نويصر وكلهم من وجوه طائفتنا ومن حمولتنا ليكتبوا اتفاقية قسمة الملك بيني وبين عمّك سليمان ويشهدوا على توقيعينا بأختامهم . أريدك أن تكون حاضرًا لتتعرف عليهم ويتعرفوا عليك. لقد أصبحت شابًّا ما شاء اللـه، وأنا فخور بك. - حاضر يابا مثل ما بدك. أجبت بصوت متهدج وانطلقت إلى البيت.

 

//هامش

(1) كتاب "تاريخ الناصرة" ليعقوب فرح لم يطبع لكن ورد ذكره في مؤلفَين كتبا في القرن العشرين أولهما كتاب "تاريخ الناصرة" للقس أسعد منصور- طبعة دار الهلال في القاهرة سنة 1924 ثم كتاب "ضاهر العمر" لتوفيق معمر الصادر عن مطبعة الحكيم في الناصرة سنة 1979. أما من اِسْتَشهَدَ به من الكُتّاب والمؤلفين بعد ذلك فأغلب الظن أن كل اعتمادهم كان على هذين المؤلَّفَين، وليس على المخطوط الأصلي أو على نسخة منه.

كان مخطوطه الأصلي محفوظًا عند السيد فهيم فرح في الناصرة كما علمت من الاستاذ المحامي توفيق معمر، فقد كان اطلع عليه عنده. وقد نفى ابنه السيد مكرم فرح وجوده عنده. وهناك شائعات مفادها أن المخطوط انتقل إلى الولايات المتحدة مع بعض أفراد عائلة فرح. حاولت العثور عليه لكنني لم أنجح في ذلك رغم الجهود الحثيثة التي بذلتُها في الناصرة وفي أمريكا.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب