لم أدرك من اللقاء غير طرفه الأخير. سمعت المذيع التلفزيونيّ يارون أبراهام يسأل أيمن عودة: "هل أنت إسرائيليّ؟! وكان هذا المذيع يصرّ على سؤاله، يقاطعه ويطارده بالسؤال غيرَ مرّة. وكان يحاول، بسؤاله الخبيث، أن يوقع أيمن عودة على وجهه ليرغم أنفُه! هكذا ظنّ، وهذا ما سعى إليه يارون أبراهام بكثير من الخبث وقلّة الحياء. ولماذا أنسب للرجل نيّة خبث؟ لأنّ سؤاله لم يكن مفتوحًا محايدًا في صياغته، بل جاء مغلوقًا على احتمالين لا يجوز الخِيار بينهما إلا بنعم أو بلا. وكأنّ أيمن عودة في امتحان دخول إلى مؤسّسة عسكريّة... بصرف النظر عن الإجابة المحتملة والمرتقبة نفسها، ظنّ المذيع أنّ أيمن عودة سيعلق به شيءٌ من سواد الوجه. في الحالتين سيعلق أيمن علقة لم يعلقها من قبله أحد. هكذا ظنّ المذيع وقدّر. لكنّ أيمن خيّب ظنّه وتقديره، لم يجب بنعم أو بلا. تجاوز السؤالَ أيمنُ وتنكّر لصياغته المستفزّة، وقال "أنا مواطن في إسرائيل"... هكذا أجاب ولم يزد على ما قال ولو حرفًا واحدًا لأنّ أبراهام هذا لم يسأله ولم يرده أن يشرح أصلًا، وأنهى الحديث بينهما عند هذا الحدّ بالضبط. ولو سأله المذيع عن ذلك لألقى أيمن عودة درسًا مستعجلًا في سياسة اللغة، ولا أقول لغة السياسة، على النحو التالي أو هكذا أظنّه يقول:
وما الفرق بين قولك "أنا إسرائيليّ" و"مواطن في إسرائيل"، وفي الصياغتين نوعٌ من الصلّة بينك وبين إسرائيل؟ صحيح، لكنّ الصلة في الأولى تتحقّق بياء النسب. وفي الثانية لا تتحقّق هذه الصلة إلا بحرف الجرّ في، وهو حرف ظرفيّ في أصله (حقيقة كان أم مجازًا). وما الفرق بينهما؟ النسب، مثلما يقول ابن فارس في "مقاييس اللغة"، هو "اتصال شيء بشيء" يا يارون. ومنه النسب المعروف. وحين تقول هذا نسيبي تعني أنه واصلك واتصل بك وبه اتصلت أنت بعلاقة مصاهرة جعلَته ينصهر في أسرتك ويذوب فيها ويصير من نسبك أي منسوبًا إلى أهلك ورهطك. أما الظرف، مثلما يقول ابن فارس نفسه، فهو "وعاء الشيء". والوعاء هو الحاضنة. والحاضنة ظرفيّة قد تنفصل عن محتواها وتتجرّد. وهكذا قد تضع في إناءٍ ماءً أو عصيرًا حلوًا أو سمًّا زُعافًا ويظلّ الإناء إناءً مجرّدًا عن محتواه.. نحن في تقاليدنا العربيّة يا يارون حين نذهب لطلب يد عروسة لابننا وخطبتها نخاطب أهلها بالدعاء والرجاء: جئناكم راغبين في مصاهرتكم، والمصاهرة نسب والنسب أهل. النسب عند الأوادم والغانمين أهل. قال صاحبي ابن فارس للجذر الثلاثيّ "صهر" أصلان: "أحدهما يدلُّ على قرْبى، والآخر على إِذابة شيْءٍ". وهكذا إذًا حين نطلب النسب نحن نطلب، في الحقيقة، الانتساب إلى أهل العروسة ورهطها وناسها بالمصاهرة أي بالانصهار بهم والذوبان بينهم.. أفهمت هذه السلسلة الثلاثيّة يا يارون، أقصد التعالق بين المصاهرة والنسب والأهل؟!
عفوك.. دعك من عادات العرب ولغتهم ومبالغاتهم في مجاملاتهم! هذه أمور لن تفهمها أنت! ولنعد إلى السياسة التي تطعمك خبزًا وبسكوتًا وتسقيك حليبًا وعسلًا ناطفًا. حين سألتَ أيمن عودة وأصررت على سؤالك "هل أنت إسرائيليّ؟" كنت تعلم الكثير عن معاني ياء النسب لأنها هي نفسها حالة صرفيّة سيميائيّة في لغتك العبريّة أيضًا. حين سألتَه كنت تعلم ملحقاتها ومستلزماتها من الانتساب والتبعيّة والانتماء والتماهي والوفاء والولاء.. جواب أيمن عودة "أنا مواطن في إسرائيل" يربط علاقته بإسرائيل بفي ظرفيّة حقيقيّة أو مجازيّة. جوابه يعني أنه لا يريد ولا يرضى ولا يستطيع أن تجمع ياء النسب، بحمولتها الثقيلة تلك، بينه وبين إسرائيل في علاقة نسب في هذا الظرف على الأقلّ. جواب أيمن عودة يا يارون، عن سؤالك الذي لم تسأله، يعني أنّ إسرائيل ليست من نسبه! لم يعجبه هذا النسب المباغت. ولم تعجبه المصاهرة من أصلها لأنّ الدولة نفسها لا تقبل المصاهرة مع غير اليهود، ولأنّ الدولة نفسها لا تصاهر من لم يكن على الصهيونيّة. وهكذا من رفض يهوديّة الدولة وصهيونيّتها لا يمكنه أن يكون من نسبها. أيمن عودة يعرف، مثلما تعرف أنت أيضًا يا يارون، أنّ للّغة وجهين اثنين: شكليًا/بنيويًا ودلاليًا/سيميائيًا. فحين تصرّ أنت بسؤالك على ياء النسب في قولك "إسرائيليّ" يعني أنك تدرك العمق الدلالي في ياء النسب، وهي حالة صرفيّة، وتدرك ملحقاتها التي تقدّم ذكرها، مثلما يعلمها أيمن عودة.. فلمَ هذا التذاكي البائس يا رجل؟! دعني أوجز الكلام في ثلاث:
مشكلتك يا يارون صرفيّة سيمانتيكيّة ومشكلتنا مسألة وجود وبقاء!
إضافة تعقيب